سلسلة أمهات المؤمنين/ أم سلمة رضي الله عنها


 سلسلة أمهات المؤمنين/ أم سلمة رضي الله عنها

( ابنة زاد الراكب )
هي أم المؤمنين ، هند بنت أبي أمية حذيفة بن المغيرة المخزومية القرشية المشهورة بكنيتها أم سلمة رضي الله عنها ، ولدت رضي الله عنها لأسرة عريقة ، فوالدها أبو أمية سيّد من سادات قريشٍ المعدودين ، وكان مشهوراً بالكرم وشدّة السخاء حتى لُقّب بـ ” زادُ الراكب ” ، إذ كان يمنع من يرافقه في سفره أن يتزوّد لرحلته ويكفيه مؤونة ذلك
وأمها عاتكة بنت عامر بن ربيعة الكنانية من بني فراس ،وهي بنت عم خالد بن الوليد رضي الله عنه ، وبنت عم أبي جهل بن هشام .

وقد تزوجت السيدة أم سلمة رضي الله عنها من ابن عمها عبد الله بن عمر المخزومي رضي الله عنه ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخوه من الرضاعة ،و أحد العشرة السابقين إلى الإسلام فقد أسلم مع أبي عبيدة الجراح وعثمان ابن عفان والأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنهم جميعًا في يوم واحد، وأسلمت رضي الله عنها مع زوجها فكانت هي الأخرى من السابقات إلى الإسلام أيضًا .

وما إن شاع نبأ إسلام أبي سلمة وزوجه أم سلمة رضي الله عنهما حتى هاجت قريش وماجت وجعلت تصب عليهما من العذاب والأذى الشديد ، فلم يضعفا ولم يهنا ولم يترددا ، ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء قال لهم :” لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكًا لا يظلم عنده أحد وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه”
صححه الألباني

فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفرارا إلى الله بدينهم فكانت أول هجرة في الإسلام وكان أول من هاجر من المسلمين أحد عشر رجلًا واربع نسوة انتهوا إلى البحر ما بين ماش وراكب فاستأجروا سفينة بنصف دينار إلى الحبشة .. وكان في طليعة هؤلاء المهاجرين : أبو سلمة بن عبد الأسد وامرأته أم سلمة بنت أمية رضي الله عنهما .

مضت السيدة ام سلمة وزوجها رضي الله عنهما إلى ديار الغربة وتركت وراءها بمكة بيتها الباذخ وعزها الشامخ ونسبها العريق محتسبة هذا كله عند الله عز وجل طمعًا في مرضاته وطلبًا لجناته .
وتتابع المسلمون حتى اجتمعوا بأرض الحبشة فكانوا بها منهم من خرج بأهله ومنهم من خرج بنفسه دون أهله .

وأمن المسلمون بأرض الحبشة وحمدوا جوار النجاشي ملك الحبشة وعبدوا الله تعالى لا يخافون على دينهم ولا على أنفسهم من احد وقد أحسن النجاشي جوارهم ووفادتهم .
فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمنوا واطمأنوا بأرض الحبشة وأنهم أصابوا بها دارًا وقرارًا اجتمعوا وعقدوا بينهم مؤامرة تروى أحداثها أم سلمة رضي الله عنها فتقول : “لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي أمنا على ديننا وعبدنا الله لا نؤذي ولا نسمع شيئًا نكرهه فلما بلغ ذلك قريش ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين منهم جلدين وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة وكان من أعجب ما يأتيه منهم الأدم فجمعوا له أدمًا كثيرًا ولم يتركوا من بطارقته بطريقًا إلا أهدوا له هدية و بعثوا بذلك مع عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص وأمروهما بأمرهم وقالوا لهما :
ادفعًوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي فيهم ثم قدموا للنجاشي هداياه ثم اسألوه أن يسلمهم إليكم قبل أن يكلمهم !
ففعل عمرو بن العاص وصاحبه ذلك حتى إذا دخلا على النجاشي قالا له :
أيها الملك إنه قد لجأ إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك وجاءوا بدين مبتدع ،وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم فهم أعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه .

فقالت بطارقة الملك من حوله :
صدقًوا أيها الملك قومهم أعلم بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهم فليرداهم إلى بلادهم وقومهم
فغضب النجاشي وقال : لا والله لا أسلمهم إليهما حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني .

ثم أرسل النجاشي إلى المهاجرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم وكلمهم فيما ذكره عمرو بن العاص وصاحبه وسمع منهم آيات من كتاب الله عز وجل فبكى النجاشي حتى اخضلت لحيته وقال : إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاه واحدة ..انطلقا فلا والله لا أسلمهم إليكما .

ثم قال النجاشي للمسلمين : اذهبوا فأنتم آمنون بأرضي من سبكم غرم فما أحب أن لي جبلًا من ذهب وأني آذيت رجلًا منكم .
ثم أمر النجاشي برد الهدايا التي قدم بها عمرو بن العاص وصاحبه فخرجا من عنده مردودًا عليهما ما جاءا به وأقام المسلمون عنده بخير دار مع خير جار “
صححه الالبانى

بعد ذلك وصلت أخبار إلى المهاجرين في أرض الحبشة بأن المسلمين في مكة قد كثر عددهم وأن إسلام أسد الله حمزة بن عبد المطلب، عم النبي صلي الله عليه وسلم والفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قد شد من أزرهم وكف شيئًا من أذى قريش عنهم .

فعزم فريق منهم على العودة إلى مكة المكرمة يحدوهم الشوق إلى بيت الله الحرام ويدعوهم الحنين إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم وكانت السيدة أم سلمة وزوجها رضي الله عنهما في طليعة العائدين ، لكن سرعان ما اكتشف العائدون أن ما نمى إليهم من أخبار كان مبالغًا فيه وأن اظطهاد قريش للمسلمين وتعذيبهم قد فاق كل الحدود !

فقد بالغ المشركون في تعذيب المسلمين وترويعهم وأذاقوهم من بأسهم ما لا عهد لهم به من قبل ، عند ذلك أمر رسول الله صلي الله عليه وسلم أصحابه بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها واللحوق بإخوانهم من الأنصار وقال : “إن الله قد جعل لكم إخوانًا ودارًا تأمنون بها” .

فخرجوا إليها وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ينتظر أن يأذن له ربه عز وجل في الهجرة والخروج إلى المدينة .

وكان أول من هاجر إلى المدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين من قريش من بني مخزوم : أبا سلمة عبد الله بن عبد الأسد رضي الله عنه وكانت هجرته إليها من قبل بيعة العقبة بسنة حين آذته قريش بعد مرجعه من الحبشة .

وكان خروج السيدة أم سلمة وزوجها رضي الله عنهما من مكة إلى المدينة ليس سهلا ميسرا وإنما كانت هجرتهم شاقة خلفت وراءها مأساة عنيفة أليمة الوقع تهون دونها كل مأساة .. تروي أحداثها السيدة أم سلمة رضي الله عنها فتقول : “لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل بعيرًا له ثم حملني عليه وجعل معي ابني سلمة في حجري ثم خرج بي يقود بعيره فلما رآه رجال بني المغير ة ابن عبد الله بن عمر بن مخزوم قاموا إليه فقالوا :
هذه نفسك غلبتنا عليها أرأيت صاحبتنا هذه ؟ علام نتركك تسير فيها بالبلاد ؟!.. ونزعوا خطام البعير من يده وأخذوني منه .
فغضب عند ذلك بنو عبد الأسد – رهط أبي سلمة – وأهووا إلى أبي سلمة وقالوا : والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا فتجاذبوا ابني سلمة حتى خلعوا يده وانطلق به بنو عبد الأسد وحبسني بنو المغيرة عندهم !!
وانطلق زوجي أبو سلمة حتى لحق بالمدينة ففرق بيني وبين زوجي وبين ابني فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح فما أزال أبكي حتى أمسي سنة أو قريبًا منها حتى مر بي رجل من بني عمي من بني المغيرة فرأى ما في وجهي فرق لحالي ورحمني فقال لبنــي المغــيرة : ألا تخرجون هذه المسكينة ؟!.. فرقتم بينها وبين زوجها وبين ابنها !
وما زال بهم حتى قالوا لي : الحقي بزوجك إن شئت ِ .. ورد على بنو الأسد عند ذلك ابني فرحلت بعيري ووضعت ابني في حجري ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة وما معي احد من خلق الله . فقلت : أتبلغ بمن لقيت حتى أقدم على زوجي حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة –أخا بني عبد الدار ـــ فقال : إلى أين يا بنت أبي أمية ؟
قلت : أريد زوجي بالمدينة .
فقال : هل معك أحــــد ؟
فقلت : ما معي أحــد إلا الله وابني هذا .
فقال : والله ما لك من مترك .. فأخذ من خطام البعير فانطلق معي يقودني.

فو الله ما صحبت رجلًا من العرب قط أراه كان أكــرم منه إذا بلغ المنزل أناخ بي ثم يستأخر عني حتى إذا نزلت استأخر ببعيري فحط عنه ثم قيده في شجرة ثم تنحى إلى شجرة أخرى فاظطجع تحتها فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدمه ورحله ثم استأخر عني وقال : اركبي .. فإذا ركبت واستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه فقادني حتى ننزل .
فلم يزل يصنع ذلك حتى قدم بي إلى المدينة فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء قال : إن زوجك بهذه القرية وكان أبو سلمة نازلًا بها ، فادخليها على بركة الله تعالى ثم انصرف راجعًا إلى مكة فكانت السيدة أم سلمة رضي الله عنها أول امرأة هاجرت إلى المدينة كما كانت من المهاجرات الأوائل إلى الحبشة

وبعد طول افتراق اجتمع زوجين وثق الحب بين قلبيهما ووحد الإسلام كيانهما وما كانت الهجرتان إلا بوتقة صهرت هذا الكيان ، وقرت عين السيدة أم سلمة رضي الله عنها بزوجها وسعد أبو سلمة رضي الله عنه بزوجته وأبنائه ، وفي يوم وبينما هما جالسان يتحدثان إذ قالت السيدة ام سلمة رضي الله عنها لزوجها : بلغني أنه ليس امرأة يموت زوجها وهو من أهل الجنة وهي من أهل الجنة ثم لم تتزوج بعده إلا جمع الله بينهما في الجنة وكذلك إذا ماتت المرأة وبقي الرجل بعدها فتعال أعاهدك ألا تتزوج بعدي ولا أتزوج بعدك !
فقال أبو سلمة رضي الله عنه: أتطيعنني ؟؟
فقالت أم سلمة رضي الله عنها : نعم فما أستأمرتك إلا وأنا أريد أن أطيعك!
فقال أبو سلمة رضي الله عنه في تضحية وإيثار : إذا مت فتزوجي !
ثم قال أبو سلمة رضي الله عنه متوجهًا إلى الله عز وجل بالدعاء : اللهم أرزق أم سلمة بعدي رجلًا خيرًا مني لا يحزنها ولا يؤذيها .

عكفت السيدة أم سلمة رضي الله عنها على تربية صغارها وكان لها ثلاثة أبناء هم : سلمة وعمر وزينب ، وتفرغ زوجها للجهاد في سبيل الله فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة بدر وعاد منها مع المسلمين وقد نصرهم الله عز وجل نصرًا عزيزًا مؤزرًا .

وعندما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ذي العشيرة استخلف على المدينة ابا سلمة رضي الله عنه ، ثم انطلق أبو سلمه رضي الله عنه ليخوض مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة أحد و أبلى فيها بلاء حسنًا إلا أن أحد المشركين رماه في عضده بسهم فمكث شهرًا يداوي جرحه الشديد .
وبينما كانت الزوجة الوفية بجوار زوجها تمرضه إذ قال لها :
لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :” ما من مسلم يصاب بمصيبة فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيرًا منها إلا أبدله الله خيرًا منها “
فحفظت منه ذلك أم سلمه رضي الله عنها ، ثم قال أبو سلمه رضي الله عنه : اللهم اخلف أهلي بخير مني .

وفي المحرم على رأس خمسة وثلاثين شهرًا من الهجرة النبوية
دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سلمة رضي الله عنه وقد تماثل جرحه للشفاء ليخرج في سرية عاد منها سالما غانما ولكن ما إن وصل رضي الله عنه إلى المدينة حتى انتفض جرحه القديم فمات في الثامن من جمادى الآخرة سنة أربع من الهجرة .

ولما توفي أبو سلمة رضي الله عنه جاءت أم سلمة رضي الله عنها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يارسول الله إن أبا سلمة قد مات
قال : “قولي :اللهم اغفر لى وله وأعقبني (عوضتي ) منه عقبى حسنة .”قالت : فقلت فأعقبني الله من هو خير لى منه محمدا صلى الله عليه وسلم . رواه مسلم

وفي الصحيح أنها رضي الله عنها تذكرت ما حدثها به زوجها الراحل من أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول :” ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله :” إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها” إلا أخلف الله له خيرا منها”
فقالت : إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي
ثم سكتت ولم تكمل الدعاء و قالت في نفسها : أنى أعاض خيرا من أبي سلمة ؟ أي المسلمين خير من أبي سلمة ؟
وذلك لحبها الشديد له ، ثم ألهمها الله أن تكمل الدعاء فقالت : “واخلف لي خيرا منها”
فأخلف الله عليها بمن هو خير منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فكانت تقول : وأنا أرجو أن يكون الله قد أجرني في مصيبتي .

أرسل رسول الله صلي الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعه رضي الله عنه إلى أم سلمه رضي الله عنها ليخطبها إليه فقالت : مرحبًا برسول الله صلي الله عليه وسلم وبرسوله ، أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم : أني كبيرة السن و أنا امرأة شديدة الغيرة وأخاف أن يرى مني رسول الله صلي الله عليه وسلم شيئًا يكرهه فيعذبني الله به وأنا امرأة ذات عيال يشغلونني عنه وأنا امرأة ليس لي ها هنا أحد من أوليائي شاهد فيزوجني
فقال صلي الله عليه وسلم :” أنا أكبر منك ،وأما الغيرة فأدعوا الله فيذهبها عنك ،وأما العيال فإلى الله ورسوله واما الأولياء فليس أحد منهم إلا سيرضى بي”

عندئذ تهللت أم سلمة رضي الله عنها ولم تستطيع إلا أن توافق وقد جاءها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعز الدنيا والآخرة فقالت لإبنها سلمه : قم فزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم في شوال سنة أربع من الهجرة، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم هو الزوج لها والكفيل لأبنائها .

لقد أوى رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمه رضي الله عنها إليه إشقاقًا عليها ورحمة بأيتامها وإكرامًا لزوجها الشهيد وأخيه من الرضاعة ،فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وقام على تربية أيتامها ووسعهم قلبه الكبير حتى أصبحوا لا يشعرون بفقد الأب إذا عوضهم الله عز وجل أبا أرحم من أبيهم ، وبذلك يكون الله عز وجل قد استجاب لدعاء أم سلمه رضي الله عنها فأخلفها خيرًا من أبي سلمه رضي الله عنه .. إنه الرسول الرحيم صلى الله عليه وسلم وكفى به سيدًا ورحيمًا .

عاشت السيدة أم سلمة رضي الله عنها في بيت النبوة ،تنهل وتتعلم من النبي صلى الله عليه وسلم ، وذات يوم وبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتها نزل عليه قوله تعالى : ( إنما يريد الله ليذهب عنك الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا ) الأحزاب 33
فدعا النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ فاطمَةَ وحَسنًا وحُسَيْنًا رضي الله عنهم فجلَّلَهُم (غطاهم ) بِكِساءٍ وعلي رضي الله عنهٌّ خَلفَ ظَهْرِهِ فجلَّلَهُ بِكِساءٍ ثمَّ قالَ: “اللَّهمَّ هؤلاءِ أَهْلُ بيتي فأذهِب عنهمُ الرِّجسَ وطَهِّرهم تطهيرًا”
قالَت أمُّ سلمةَ: وأَنا معَهُم يا رسولَ اللَّهِ؟ قالَ:” أنتِ على مَكانِكِ وأنتِ إلي خَيرٍ”
صححه الألباني

وكانت- رضي الله عنها- من النساء امرأة عاقلة ذات رأي ، يشهد لهذا ما حدث يوم الحديبية ، بعد كتابة الصلح ، فقد أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة في ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة واصطحب معه أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها ، وخرج معه عدد من الصحابة رضوان الله عليهم بلغ عددهم قريب من ألف وأربعمائة ، ولما بلغ الخبر قريش خرجت لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأقمست ألا يدخل بلدهم مسلم ،وبدأت المفاوضات بين النبي صلى الله عليه وسلم وقريش ،والمسلمون ينتظرون أن تفتح لهم أبواب مكة فيطوفوا ويسعوا ،ووافق النبي صلى الله عليه وسلم على شروط صلح الحديبية وهى :
١. وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض
٢. من أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش بغير إذن وليه رده عليهم ، ومن جاء قريش من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يردوه عليه
٣. أن يرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عامهم هذا فلا يدخلوا مكة على أن يعودوا إليها للعمرة في العام المقبل.

وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتحلل من نسكهم ، وحثّهم على النحر ثم الحلق ، فشقّ ذلك على الصحابة الكرام ، ولم يفعلوا ، حتى قالها النبى صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فلم يقم من المسلمين أحد

فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة رضي الله عنها مغضباً ، فذكر لها ما كان من أمر المسلمين وإعراضهم عن أمره ، وكانت رضي الله عنها عاقلة حسنة الرأي والفهم ، ففطنت إلى سبب إعراضهم وعدم امتثالهم ، فقالت للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله أتحب أن يمتثلوا لأمرك ؟ اخرج فلا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنتك وتدعو حالقك فيحلقك ، فقام وخرج ، ولم يكلم أحداً حتى نحر بدنته ودعا حالقه فحلقه ، فلما رأى الناس ذلك قاموا مسرعين فنحروا هديهم وجعل بعضهم يحلق بعضاً.
رواه أحمد

وثاب المسلمون إلى عقولهم ببركة رأي السيدة أم سلمة رضي الله عنها ،قال الإمام ابن حجر : ” وإشارتها على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية تدل على وفور عقلها وصواب رأيها
وكانت السيدة أم سلمة رضي الله عنها ذات شخصية قوية متميزة ورأى صائب جريء ودور قيادي وسط أمهات المؤمنين رضي الله عنهن ، وكان لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم أن يذهب الله عز وجل عنها الغيرة أثرة على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فكن يتحاكمن إليها لعلمهن ببراءتها من الغيرة .

وعندما علم الفاروق عمر رضي الله عنه، ان نساء النبي يراجعنه في القول دخل على ابنته حفصة رضي الله عنها أولا ،ثم دخل على السيدة أم سلمه رضي الله عنها فقال لها : يا أم سلمه تكلمن رسول الله وتراجعنه في شيء ؟!
فقالت السيدة أم سلمه رضي الله عنها : عجبًا لك يا ابن الخطاب !! دخلت في كل شيء حتى تبتغي أن تدخل بين الرسول وأزواجه ؟!…أي والله إنا لنكلمه فإن حمل ذلك كان أولى به وإن نهانا كان أطوع عندنا منك . فخرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه من عندها نادمًا على كلامه لنساء النبي صلى الله عليه وسلم .

صحبت السيدة أم سلمه رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدة غزوات منها غزوة خيبر والطائف وخرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة ، وجاء أخوها عبد الله بن أبي أمية يتلمس الدخول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلن إسلامه أمامه وذلك قبل أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فاتحًا ، فكلمت أم سلمه رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه واستشفعت له فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدخول عليه فأسلم .

وفي يوم من الأيام كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم أعرابيٌ فقال: ألا تُنْجِزْ لي ما وعدتني ؟ فقال له: ” أبشرْ “
فقال: قد أكثرتَ عليَّ من أبشرْ ، فأقبلَ على أبي موسى وبلالٍ كهيئةِ الغضبانِ ، فقال:
” رَدَّ البُشْرى ، فاقْبَلا أنتما ” قالا : قَبِلْنا ، ثم دعا بقَدَحٍ فيه ماءٌ ، فغسل يدَيْه ووجهَه فيه ومجَّ فيه ، ثم قال: “اشْرَبا منه ، وأفْرِغا على وجوهِكما ونُحورِكما وأبْشِرا ”
فأخذا القَدَحَ ففعلا ، فنادت أُمُّ سلمةَ رضي الله عنها من وراءِ ستارٍ: أن أفْضِلا لأُمِّكُما ، فأفْضَلا لها منه طائفةً.
رواه البخاري

وقد كانت رضى الله عنها كريمة سخية ففي يوم جلست إليها جاريتها فأتت نساء فقيرات يسألنها الصدقة ولم يكن لديها شيء فقالت لهن الجارية : اخرجن.. اخرجن ، فقالت أم سلمة رضي الله عنها : ما بهذا أمرنا يا جارية ردي كل واحدة ولو بتمرة تضعينها في يدها

و لما أنزل الله توبة أبو لبابة رضي الله عنه على رسوله صلى الله عليه وسلم ،من آخر الليل وهو في بيت أم سلمة رضي الله عنها ، فجعل يبتسم فسألته أم سلمة رضي الله عنها فأخبرها بتوبة الله على أبي لبابة ،فاستأذنته أن تبشره فأذن لها فخرجت فبشرته فثار الناس اليه يبشرونه.

وعن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اشترتني أم سلمة رضي الله عنها وأعتقتني واشترطت علي ان أخدم النبي صلى الله عليه وسلم ما عشت، فقلت: أنا ما أحب أن أفارق النبي صلى الله عليه وسلم ما عشت.

وروى البخاري في صحيحه أن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة رضي الله عنها، فاجتمع أزواجه صلى الله عليه وسلم إلى أم سلمة رضي الله عنها وقلن لها : قولى له يأمر الناس أن يهدوا له حيث كان ، فقالت أم سلمة رضي الله عنها فلما دخل على قلت له ذلك فأعرض عنى ، ثم قلن لها ذلك فقالت له فأعرض عنها ، ثم لما دار إليها قالت له فقال : ” يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة فانه والله ما نزل علي الوحي في بيت وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها”

ولقد شهدت السيدة أم سلمة رضي الله عنها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوادع سنة عشرة من الهجرة ، ولكنها مرضت وشكت وجعًا فلم تستطيع الخروج والطواف بالبيت الحرام فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : “إذا اقيمت صلاة الصبح فطوفي على بعيرك من وراء الناس وأنت راكبة” .
كما رخص لها في رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس ليلة النحر .

ثم لم يلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد حجة الوداع إلا قليلًا حتى توفاه الله عز وجل فأصيب المسلمون بمصيبة قالت عنها أم سلمه رضي الله عنها : “فيالها من مصيبة ما أصبنا بعدها بمصيبة إلا هانت إذا ذكرنا مصيبتنا به صلى الله عليه وسلم “

كانت رضى الله عنها من فقهاء الصحابيات تروي احاديث النبي صلى الله عليه وسلم واخباره وعباداته وبلغ ماروته من أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة وثمانية وسبعين حديثًا .

وقد أخذت أم سلمة حظّاً وافراً من أنوار النبوّة وعلومها ، حتى غدت ممن يُشار إليها بالبنان فقها وعلماً ، بل كان الصحابة يفدون إليها ويستفتونها في العديد من المسائل ، ويحتكمون إليها عند الاختلاف ، ومن ذلك أن أبا هريرة وبن عباس رضي الله عنهما ، اختلفا في عدة المتوفى عنها زوجها إذا وضعت حملها ، فقال أبو هريرة رضي الله عنه : لها أن تتزوج ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : بل تعتدّ أبعد الأجلين ، فبعثوا إلى أم سلمة رضي الله عنها فقضت بصحّة رأي أبي هريرة رضي الله عنهم.

ولما عزمت السيدة عائشة رضي الله عنها على الخروج إلى وقعة الجمل أرسلت إليها ناصحة تطلب منها لزوم بيتها، ومما قالته لها: لو قيل لي يا أم سلمة ادخلي الجنة لاستحييت أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم هاتكة حجاباً ضربه علي، فاجعليه سترك وقاعة بيتك حصنك.

وفي عام تسع وخمسين للهجرة فاضت روحها الطاهرة إلى بارئها ،وكانت قد بلغت الرابعة والثمانين من العمر ،وصلى عليها الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه ،وكانت آخر زوجات النبي صلى الله عليه وسلم موتا ، ودفنت في البقيع مع بقية أمهات المؤمنين رضي
الله عنهن أجمعين .

جمع وترتيب / أ. سعاد أبو النجا

You May Also Like