شرح مقدمة كتاب الأربعين النووية (١)

شرح مقدمة كتاب الأربعين النووية (١)

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: “بسم الله الرحمن الرحيم”، “مقدِّمة”، وقد تُفتَح الدال “مقدَّمة” فهي مقدِّمة باعتبار أنها متقدمة على الكلام كله، وهي مقدَّمة باعتبار أن المؤلف قدمها على هذا الكلام، فيجوز في الدال الفتح والكسر، وإن كان الأشهر والأكثر هو الكسر.
ثم بعد ذلك قال المؤلف -رحمه الله تعالى-:

“الحمد لله رب العالمين” ولسنا بحاجة إلى إعادة ما مر بنا مرارًا من الكلام على الحمد، وأن كثيرًا من أهل العلم يفسره بالثناء على الله- جل وعلا-،

وأن ابن القيم -رحمه الله تعالى- انتقد هذا التعريف بحديث أبي هريرة- رضي الله عنه- في صحيح مسلم: ((قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين: فإذا قال العبد: {الحمد لله رب العالمين} قال: حمدني عبدي، فإذا قال: {الرحمن الرحيم} قال: أثنى علي عبدي)) فالثناء ليس هو الحمد، بل هو الحمد المكرر المثنى مرتين وثلاثًا، فتكرار المحامد هي: الثناء على الله -جل وعلا -؛ ولذلك ما قال الله -جل وعلا- في الحديث الصحيح: إذا قال العبد: {الحمد لله رب العالمين} قال: أثنى علي عبدي، إنما قال: حمدني عبدي، فإذا قال: {الرحمن الرحيم} يعني كرر هذا الثناء وهذا الحمد سمي ثناءً، قال: أثنى علي عبدي. والتعريف المرضي عند ابن القيم -رحمه الله- أن الحمد: هو ذكر الله -جل وعلا- بأوصافه التي بجميعها يستحق المدح. فجميع أوصاف الله -جل وعلا- متضمنة للمدح والحمد، فذكره -جل وعلا- بهذا الأوصاف هو حمده، وتكرار هذا الحمد هو الثناء.

“رب العالمين” : “العالمين” جميع ما سوى الله -جل وعلا-، كل ما سوى الله عالم وقد يطلق على الخلائق من أولهم إلى آخرهم عالم -وهذا هو الإطلاق الأصلي-، وقد يطلق على أهل جيل من الناس أو أمة من الأمم فيقال لهم عالم. فبنو إسرائيل فضلوا على العالمين يعني على عالمي زمانهم، وإلا فهذه الأمة أفضل منهم بلا شك,
“قيوم السموات والأرضيين” يعني القائم بأمر السموات وأهل السموات، والأرضيين وأهل الأرضيين. “السموات والأرضيين” السموات السبع، والأرضين السبع؛ لقوله- تعالى: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [(12) سورة الطلاق] يعني سبع كذلك.
“مدبر الخلائق أجمعين” لا يخرج أحد عن تدبيره وتصرفه -جل وعلا- فهو المدبر لجميع الخلائق، ولا يمكن أن يستقل شيء من المخلوقات بنفسه دون الله -جل وعلا-.
“باعث الرسل” باعث الرسل إلى أممهم، وباعث النبي محمد -عليه الصلاة والسلام- إلى الثقلين الجن والإنس.
“وصلوات الله وسلامه عليهم أجمعين”، الصلوات جمع صلاة، “وصلوات الله” يختلف فيها أهل العلم، منهم من يقول: إنها الثناء عليهم، ومنهم من يقول: الدعاء لهم بالرحمة.
“إلى المكلفين” من بلغ سن التكليف فالمكلفون هم الإنس والجن ممن تعدى مرحلة رفع القلم، فهم جميع الإنس والجن ماعدا الثلاثة الذين رفع عنهم القلم: ((الصغير حتى يبلغ، والمجنون حتى يفيق، والنائم حتى يستيقظ)) مع أن النائم مكلّف، بمعنى أن رفع القلم عنه مؤقت، فنومه ساعات ثم يستيقظ فيعود عليه التكليف، لكنه أثناء النوم القلم عنه مرفوع وهذا في حقوق الله -جل وعلا-، أما في حقوق الخلق وما يكون التكليف فيه من باب ربط الأسباب بالمسببات فيكون من الحكم الوضعي لا من التكليفي، فجمهور أهل العلم يرون أن الصبي والمجنون تجب عليهم الزكاة، والثلاثة تلزمهم قيم المتلفات وأروش الجنايات، ولا يقال: إن القلم مرفوع عنهم فلا تجب عليهم هذه الأمور؛ لأنها ليست من الأحكام التكليفية وإنما هي من الأحكام الوضعية. مثاله نائم إذا انقلب أو تحرك فكسر متاعًا لغيره يضمن، وصغير يضمن في مثل هذه الصورة، ومجنون جنى يضمن. والمراد بالضمان ضمان وليه في المال، و هذه مسألة معروفة عند أهل العلم.
قوله -رحمه الله-: “لهدايتهم”، باعث الرسل إلى الخلق أجمعين لهدايتهم، ودلالتهم وإرشادهم إلى الصراط المستقيم، إلى تحقيق الهدف الذي من أجله خلقوا وهو تحقيق العبودية لله -جل وعلا-. “وبيان شرائع الدين” لهم، فالأنبياء يهدونهم ويدلونهم ويبينون لهم الشرائع ليعملوا بها، قال الله -تعالى-: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [(48) سورة المائدة] كل نبي ورسول من هؤلاء الرسل له شريعة ومنهاج وإن كان أصل الدين واحدًا كما جاء في الحديث الصحيح: ((نحن معاشر الأنبياء أولاد علّات، وديننا واحد)) وهو الإسلام الذي هو الأصل، وإن كانت الشرائع تختلف من شريعة إلى أخرى. {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [(48) سورة المائدة] جاء في صحيح البخاري شرعة ومنهاجًا: أي سبيلًا وسنة، فالشرعة هي السنة، والمنهاج هو السبيل.

“بالدلائل القطعية وواضحات البراهين”، التي يأتي بها الرسل عن الله -جل وعلا-، وما يقوله أو ما ينقله الرسول- صلى الله عليه وسلم- عن ربه -جل وعلا- بلفظه مثل: القرآن، والكتب المنزلة: كالتوراة والإنجيل والزبور قبل التحريف, وصحف إبراهيم وموسى، وغيرها مما يعرف ومما لا يعرف, فهذه كلها من عند الله -جل وعلا- يجب الإيمان بها، بل الإيمان بالكتب ركن من أركان الإيمان.
“الدلائل القطعية” تكون بنصوص الوحي المنزَّل وبما ينقله النبي- صلى الله عليه وسلم- عن ربه -جل وعلا-؛ لأن ما يقوله ويتكلم به وينطق به هو وحي كما في قوله -جل وعلا-: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [(3-4) سورة النجم].
ثم كرر الحمد فقال: “أحمده على جميع نعمه، وأسأله المزيد من فضله وكرمه” هو المستحق للحمد فهو المنعم, الحق، وأما ما يُحمد به الناس أو يمدحون عليه فباعتبارهم تولوا القسمة, وإلا فالمعطي هو الله -جل وعلا- كما جاء في الحديث الصحيح ((إنما أنا قاسم والله يعطي)). والله -جل وعلا- يقول للأغنياء: {وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [(33) سورة النــور], فالبشر المال بأيديهم عارية، وضع في أيدي بعض الناس ليبتليهم ويبتلي بهم. وبالمقابل هناك من الناس من لا مال عنده ليبتلى, هل يصبر؟ فالغني يبتلى هل يشكر ويستعمل هذا المال فيما يرضي الله -جل وعلا-، أو يكفر هذه النعمة فيجحدها ويجحد نسبتها إلى الله -جل وعلا-، ويستعملها فيما لا يرضي الله -جل وعلا- . كما أن الفقير يبتلي هل يصبر ويرضى ويسلِّم ويحمد الله على نعم كثيرة أخرى لا يستطيع عدَّها؟
فعلى الإنسان أن يحمد الله -جل وعلا-، وأن يلهج بذكره وشكره، ولا يجحد هذه النعم وإن كان يغفل عنها, فهناك كثير من الناس في غفلة تامة عن هذه النعم، لكن مع ذلك عليه أن يتذكر وعليه أن يشكر, قال -تعالى-: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [(7) سورة إبراهيم].
قوله -رحمه الله- : “أحمده على جميع نعمه”، هناك النعم الظاهرة، وهناك النعم الخفية, والله -جل وعلا- أسبغ النعم على عباده، وأعظم هذه النعم على الإطلاق نعمة الإسلام، وهذا هو رأس المال. هل يمكن أن تقارن حالة أقل المسلمين شأنًا في أمور الدنيا بأعظم الكفار شأنًا في أمور الدنيا؟ أبدًا، ولذا المؤمن كخامة الزرع، المصائب تعتريها من كل وجه، وأما الكافر مثل الأرْزة -شجرة صلبة متينة عريضة لا تحركها الرياح- فلا تعتريها العوارض. ولذا الإنسان يحمد الله -جل وعلا- أن جعله من هذه الأمة ويفتخر بإسلامه ويرفع رأسه بدينه؛ لأن الله -جل وعلا- يقول: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [(33) سورة فصلت]، فيعتز بدينه ويفتخر به.
“وأسأله المزيد من فضله وكرمه”، يطلب ويسأل الله -جل وعلا- بلسانه وبفعله. ولا يحقق المزيد شيء أعظم من الشكر، فالدعاء ينفع, لكن المضمون هو الشكر, قال الله -تعالى-: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ}؛ لأن الدعاء قد يجاب بما طلب وقد لا يجاب بنفس الطلب، قد يؤخر الطلب إلى يوم القيامة، وقد يدفع عنه من الشر والمكروه أعظم مما طلبه، لكن الشكر نتيجته المزيد {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ}. وضد الشكرِ الكفر, وليس معناه الكفر المخرج من الملة، إنما كفر هذه النعمة في مقابل الشكر.

وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..

المصدر : شرح الأربعين النووية لفضيلة الشيخ عبد الكريم الخضير

جمع وترتيب : رانيا مصطفى

You May Also Like