شرح الأربعين النووية-1-إنما الأعمال بالنيات

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمراسلين.
قال الإمام النووي -رحمه الله-: عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى؛ فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)). رواه البخاري، ومسلم في صحيحيهما الذين هما أصح الكتب المصنفة.
الشرح:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في الحديث الأول من الأربعين: “عن أمير المؤمنين”، الإمارة والولاية معروفة، ويراد بهذا المنصب وهو الإمامة العظمى..
((انما الاعمال بالنيات)) جمع نية، والنية يعرِّفونها: بالقصد والعزم. ويقولون في كتب اللغة: “النية في اللغة: القصد”، حتى الشراح يقولون هذا يقال: نواك الله بخير، أي: قصدك به. 
((إنما الأعمال بالنيات))يشترط وجود النية لأي عمل من الأعمال يقدر الصحة، فيكون التقدير: “إنما صحة الأعمال بالنيات”وهو أن الأعمال إذا كانت شرعية فلا تصح إلا بالنيات، 
((وإنما لكل امرئ ما نوى))، يعني يحصل له أجرُ ما نواه من عمله، ومفهومه أن الذي لا ينويه لا يحصل له أجره،. 
 مثلا في المسجد جنائز يصلى عليها بعد الصلاة، خرجت إلى المسجد تعرف هذا المسجد وأنه يصلى فيه على الجنائز، وخرجت من بيتك بقصد الصلاة الفريضة، والصلاة على الجنازة فهل يستوى شخص ذهب إلى المسجد للصلاة فقط، وشخص ذهب إلى الصلاة، وصلاة الجنازة معًا، وخص هذا المسجد؛ لأنه تصلى فيه الجنائز؟ نقول: هذا أجره عظيم، ولكن من خرج إلى الجامع الذي تصلى فيه على الجنائز له أجر نية الصلاة، وأجر نية صلاة الجنازة، لكن ليس له أجر الجنازة إلا إذا صلى على الجنازة فيؤجر على النية الصالحة؛ لخروجه لصلاة الجنازة. فصار عمل من الأعمال يحقق هدفين في آن واحد. وهذا بخلاف من لم تخطر له الجنازة على باله وخرج لا ينهزه إلا الصلاة, فله أجر الصلاة، إن وجد جنازة وصلى عليها فله قيراط وإن لم يقصدها من بيته، لكن هناك فروق بين هذه المقاصد.
و هذا مفاد قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((وإنما لكل امرئ ما نوى)).
فاستحضار مثل هذه الأمور، ومثل هذا الجمل حقيقة يفتح آفاقًا وأبوابًا للأجور مما لا يخطر على بال، يعني لو أن شيخا مثلًا قال: “والله ما أنا بجالسٍ من أجل طالب واحد حضر عندي”، نقول له: “استحضر نية نفع هذا الطالب ومن ينتفع به، وقد يتسلسل الأمر إلى قيام الساعة وأجورك ماشية”.
هذه فائدة قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((وإنما لكل امرئ ما نوى))، فليس لك من عملك إلا ما نويت.
((فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله))  “من كانت هجرته نية وقصدًا، يعني مخلصًا في ذلك لله -جل وعلا-
((الهجرة)):في الاصطلاح: “الانتقال من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام”، وهي واجبة وحكمها باقٍ إلى قيام الساعة. أما حديث: ((لا هجرة بعد الفتح)) فإنما المراد به من مكة؛ لأنها صارت دار إسلام، أما البقاء بدار الكفر، والإقامة بدار الكفر فلا تجوز بحال ولا يعفى عن أحد مستطيع، أما الذي لا يستطيع الحيلة فإنه معذور؛ لقول الله -تعالى -: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} [(98) سورة النساء], فنص على الذي لا يستطيع, فمثله {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [(286) سورة البقرة]. لكن المستطيع القادر على الهجرة يجب عليه أن يهاجر، وذلك لعظم أمر البقاء بين ظهراني الكفار. كم من إنسان انحرف؟ كم من شخص ارتد؟ كم من إنسان ابتلي وامتحن حتى صرف عن دينه؟
((ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها))، يعني يقصد بذلك شيئًا من حطام الدنيا.
((أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه)) في الجملة الأولى قال: ((من كنت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله))، فكرر ذلك تعظيمًا لشأن هذه الهجرة إلى الله ورسوله.
أما في الجملة الثانية قال: ((من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها أو ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه))، ما قال: “إلى دنيا”، أو “إلى امرأة” فلم يكرر مثل الجملة الأولى تحقيرًا لشأن الهدف والقصد من هذه الهجرة.
 مثال: رجل يأتي قبيل آذان المغرب بنصف ساعة ومعه الكيس فيه التمر والقهوة والماء، ثم بعد ذلك يدخل المسجد قبل آذان المغرب يوم الاثنين بنصف ساعة، ويأتي يفل السماط ويضع التمر والقهوة والشاي ويجهز أموره، حتى إذا أذن قال: بسم الله، وأكل من التمر، وشرب من القهوة وهو ليس بصائم. فالأكل في هذا الوقت ليس بممنوع، وليس بممنوع في المسجد، لكنه أظهر للناس أنه صائم فيذم ويلام. فإذا أظهر للناس خلاف الواقع لا شك أنه يذم؛ ولذا سيقت الهجرة إلى الدنيا أو إلى المرأة التي يتزوجها مساق الذم.
((من كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)). 
يذكر في هذا المقام حديث مهاجر أم قيس، وهو عند الطبراني كما قال الحافظ ابن حجر بسند جيد: أن رجلًا هاجر من أجل امرأة تدعى أم قيس، لم تقبل به زوجًا حتى هاجر فكان يسمى مهاجر أم قيس.
مسألة 
أم سلمة قالت لأبي سلمة: “لا أتزوجك حتى تسلم، فإذا أسلمت لا أريد مهرًا”. كانت هي مسلمة ولم يسلم بعد فأسلم وتزوجها. هل يقال: إن هذا أسلم من أجل أم سلمة فيذم بهذا؟
 إذا كان من هاجر بسبب امرأة يلام ويذم، فكيف إذا أسلم بسبب امرأة؟
ولكن هناك ملحظ دقيق، لو قدِّر أنه أسلم وعقد عليها فمات، فهو إنما أسلم من أجل الزواج بها فمات مباشرة، قلنا: إنه إنما أسلم من أجلها، لكن إذا طال به العمر، وحسن إسلامه، ووقر الإيمان في قلبه انتهت المسألة. 
هكذا قضية الإسلام فمثل: المؤلفة قلوبهم كثير منهم يسلم من أجل المال، ثم بعد ذلك يحسن إسلامه وتصلح حاله، لا شك أن مثل هذا حكمه ما آل إليه الأمر، 
وهل يعني هذا أنه لو مات فإسلامه غير صحيح؟
نقول: لا, بل إسلامه صحيح، لكن يلام يعني أنه ليس مثل من أسلم رغبة. والأمر يرجع إليه إن كان دخوله في الإسلام لمجرد الزواج دون أي قصد للدين، هذا لا شك أن في إسلامه نظر، وهذا أمر خفي بينه وبين ربه، لكن ما دام طال به العمر وحسن إسلامه، ورسخت أقدامه، وباشر الإيمان بشاشة قلبه فصلحت أحواله.
(رواه البخاري) نسبة إلى بخارى ولد بها، ومات بقرية يقال لها: خرتنك سنة ست وخمسين ومائتين.   
ومسلم النيسابورى 
أما بالنسبة للإمام البخاري فليس بعربي.
“في صحيحيهما الذين هما أصح الكتب المصنفة”، 
لو قال: أصح الكتب فقط (بدون المصنفة)، لزم أن يقول: “بعد كتاب الله -جل وعلا-“، لكن لما ذكر المصنفة انتهى الإشكال.
 هل يمكن أن نقول المصحف مصنف؟ لا، ولذلك خرج القرآن بالوصف المصنفة، فلا نحتاج أن نستثنيه فهما أصح الكتب المصنفة التي ألفها البشر، 
فهما أصح الكتب بالإجماع.
 والمفاضلة بين الصحيحين مسألة معروفة، والجمهور على أن البخاري أصحهما وأكثرهما فوائد؛ ولذا يوصى طالب العلم أن يكون ديدنه ومحور بحثه البخاري، ويضيف إليهما ما في الكتب الأخرى من الزوائد، وينظر من وافقه من الأئمة, فيضيف إليه صحيح مسلم، ويضيف أبا داود، ثم بعد إذا كمل صحيح البخاري يكون لديه حصيلة ورصيد كبير من سنة النبي -عليه الصلاة والسلام- من أصح الكتب.
ثم بعد ذلك صحيح مسلم، وكثير من أهل العلم يُعنى بمسلم أكثر من البخاري باعتبار أن خدمته أسهل، يعني معاناة صحيح مسلم أسهل من معاناة صحيح البخاري، البخاري يفرق الأحاديث، الحديث الواحد في سبعة مواضع كما هنا، وقد يزيد إلى عشرين موضعًا، فجمع شتات هذه المواضيع لا شك أنه فيه كَلَفة على طالب العلم، وإن كانت الخدمات الموجودة في خدمة الأطراف ميسرة.
فيكون البخاري هو الذي يعوَّل عليه، ويعتمد عليه، ويضاف إليه الزوائد من غيره كمسلم، والسنن الأربع وغيرها..
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
 ……………..
المصدر
شرح كتاب الأربعين النووية
فضيلة الشيخ عبد الكريم الخضيري

You May Also Like