سلسلة أمهات المؤمنين/ صفية بنت حيي رضي الله عنها

 سلسلة أمهات المؤمنين/ صفية بنت حيي رضي الله عنها

هي أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب ، أبوها سيد بني النضير ، من سبط لاوي بن نبي الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام ، ومن ذرية نبي الله هارون بن عمران أخى موسى عليهما السلام ، وأمها برة بنت سموءل من بني قريظة إخوة بني النضير .

وكان يهود بني قريظة وبني النضير يسكنون ضواحي المدينة ويعيشون في حصونهم على الزراعة ،ولقد ولدت رضي الله عنها ونشأت وتربت في عز أبيها سيد بني النضير وزعيمهم ،والذي كان ذا مال وشرف في قومه فلما نضجت صفية رضي الله عنها وتأهلت لأن تصبح عروسًا تزوجها سلام بن مشكم القرظي ،وكان فارس قومها ومن كبار شعرائهم ،إلا أنه ما لبث أن فارقها فتزوجها كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق النضري وكان من شعراء اليهود أيضًا وزعمائهم .

ولما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ونزل بقباء ، تسامع اليهود بنزوله إلى جوارهم فتسابقوا لمعرفة حقيقته وصفته ليتأكدوا من شخصه ونبوته ويقارنوا بينه وبين ما سجلته كتبهم عن نبي آخر الزمان . .

وكان أول المشاهدين لرسول الله صلى الله عليه وسلم سيد بني النضير حيي بن اخطب وأخوه أبو ياسر بن أخطب ، وتروي السيدة صفية رضي الله عنها ذكرياتها عن تلك المشاهدة فتقول :
” كنت أحب ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر لم ألقهما قط مع ولدٍ لهما إلا أخذاني دونه فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ونزل بقباء في بني عمرو بن عوف ، غدا عليه أبي وعمي مغلسين ( في أول الصباح ) فلم يرجعا حتى كان غروب الشمس فأتيا كالين(مجهدين) كسلانين فهششت إليهما كما كنت اصنع فوالله ما التفت إلي واحد منهما مع ما بهما من الغم !! وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي:
أهو هو ؟!..
فقال أبي : نعم والله
فقال عمي : أتعرفه وتثبته ؟!
فقال أبي : نعم .
فقال عمي : فما في نفسك منه ؟!
فقال أبي : عداوته والله ما بقيت !! “

وكانت مع أبيها وابن عمها بالمدينة ، فلما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير ساروا إلى خيبر ، وقتل أبوها مع من قتل من بني قريظة ثم قتل زوجها يوم خيبر ، وأخذت هي مع الأسرى

و جاء الصحابي الجليل دحية بن خليفة الكلبي رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: أعطني جارية من السبي .
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : “اذهب فخذ جارية “.

فذهب دحية رضي الله عنه وأخذ صفية بنت حيي رضي الله عنها وكانت اجمل بنات قومها ، إلا أن أهل الرأي والمشورة من الصحابة رضوان الله عليهم قالوا : يا رسول الله إنها سيدة قريظة وبني النضير ما تصلح إلا لك !

فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم من دحية رضي الله عنه ، وأعطاه بها ما رضي وقال له : “خذ جارية من السبي غيرها ” ، واصطفاها عليه الصلاة والسلام لنفسه ، وخيرها بين الإسلام والبقاء على دينها قائلا لها:
” اختاري ، فإن اخترتِ الإسلام أمسكتك لنفسي (أي تزوجتك ) ، وإن اخترتِ اليهودية فعسى أن أعتقك فتلحقي بقومك ”
فقالت صفية رضي الله عنها :
أختار الله ورسوله ، فقد هويت يا رسول الله الإسلام وصدقت بك قبل أن تدعوني ، حيث صرت إلى رحلك وما لي في اليهودية أرب ، وما لي فيها لا والد ولا أخ ، وخيرتني الكفر والإسلام ، فالله ورسوله أحب إلي من العتق وأن أرجع إلى قومي “

فأسلمت صفية بنت حيي رضي الله عنها وحسن إسلامها ولم يشب دينها شائبة فأمسكها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه وأعتقها وتزوجها وجعل عتقها صداقها

فقد استحسن النبي الرحيم صلى الله عليه وسلم رأي أصحابه من أهل الرأي والمشورة ،فأبى أن تذل هذه السيدة الشريفة في قومها بالرق والعبودية ،فاصطفاها النبي صلى الله عليه وسلم وأعتقها وتزوجها ، وكان هدفه عليه الصلاة والسلام إعزازها وإكرامها ورفع مكانتها ، إلى جانب تعويضها خيرا ممن فقدت من أهلها وقومها ، ووصل بهذا الزواج قومها الذين دأبوا على مخاصمته طوال حياتهم ، ولقد أحسن الرسول صلى الله عليه وسلم اليها وأكرمها وتلطف بها حتى أصبحت تفضله على اهلها وعشيرتها

ولقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجه صفية رضي الله عنها أثر خضرة قريبًا من عينها فسألها عنها وقال : “يا صفية ما هذه الخضرة ؟!”
فقالت صفية رضي الله عنها : يا رسول الله رأيت في منامي كأن قمرًا أقبل من يثرب، فسقط في حجري !! فقصصت رؤياي على زوجي وابن عمي كنانة بن أبي الحقيق فضرب وجهي ضربة أثرت فيه وقال: أتتمنين ملك يثرب محمدًا أن يصير زوجك ؟! فهذه من لطمته

وانقضت عدة صفية بنت حيي رضي الله عنها قبل أن يخرج النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر فألقى عليها رداءه وضرب عليها الحجاب بعد أن صارت أمًا للمؤمنين ، فلما قرب البعير لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرج، ثنى لها النبي صلى الله عليه وسلم ركبته لتضع قدمها على فخذه فتركب على البعير ، فأجلت صفية رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبت أن تضع قدمها على فخذه بل وضعت ركبتها فركبت

فلما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى موضع يقال له (تبار) على ستة أميال من خيبر مال يريد أن يعرس بها (يدخل بها) ، فأبت فوجد(غضب) النبي صلى الله عليه وسلم عليها في نفسه من ذلك وشق عليه تمنعها ورفضها .

فاستأنف مسيره نحو المدينة ،فلما كان بالصهباء نزل لإراحة الجيش ،ودفع صفية رضي الله عنها إلى أم سليم رضي الله عنها ،فجملتها ومشطتها وعطرتها وأصلحت من أمرها فكانت من أضوأ ما يكون من النساء وأوصتها قائلة : إذا أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي فقومي إليه
فلما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قامت إليه ، فسر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وبات عندها في قبة له ، وسألها : “ما حملك على الامتناع من النزول أولا؟! “
فقالت : يا رسول الله خشيت عليك من قرب اليهود .
فزال ما كان يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه من جفوة نحوها ،وزادت مكانتها عنده

وأصبح النبي صلى الله عليه وسلم وقد بني بها (دخل بها) ،فقال :” من كان عنده شئ فليأت به ” ،فجعل الرجل يجئ بالتمر ، آخر يجئ بالسمن ، وثالث بالسويق ، فكانت تلك وليمة رسول الله صلى الله عليه وسلم على صفية رضي الله عنها . ثم ارتحلوا إلى المدينة

قدمت السيدة صفية رضي الله عنها بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر إلى المدينة وكان يعاملها في غاية الرفق ووجدت منه رقة ولطفا فقالت :” مارايت قط أحسن خلقا من رسول الله صلى الله عليه وسلم”

و دخلت رضي الله عنها بيت النبوة ،وكان عمرها على أصح الأقوال سبعة عشر عاما ،وكانت تكنى أم يحي ، وكانت طاهرة القلب ،صافية الروح، وعند وصولها قدمت هدايا لأزواج النبي عليه الصلاة والسلام للتودد لهن ، وأهدت السيدة فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حلقًا من ذهب كان في أذنيها وأحبتها حبا شديدا

وكانت رضي الله عنها رقيقة المشاعر صافية النفس تقية زكية ،ذات عين باكية خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر له فلما كان بعض الطريق برك بها( سقط) جملها بسبب ضعفة وإعيائه فبكت وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخبر بذلك فجعل يمسح دموعها بيده الشريفة وبردائه .

وكانت رضي الله عنها شريفة ، عاقلة ، ذات حسب أصيل ، وجمال ورثته من أسلافها ، وكان من شأن هذا الجمال أن يؤجّج مشاعر الغيرة في نفوس أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ففي يوم دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدها تبكي فقال لها : “ما يبكيك ؟! “
فقالت له : إن نساءك يتفاخرن علي ويقلن : نحن أكرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم منك فنحن أزواجه وبنات عمه !
فطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم خاطرها وقال لها : “ألا قلتِ لهن : كيف تكن خيرًا مني وأبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد ؟! “

ولما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم تأثّرت رضي الله عنها لمرضه ، وتمنت أن لو كانت هي مكانه ، فعن زيد بن أسلم رضي الله عنه قال: ” اجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفى فيه، واجتمع إليه نساؤه، فقالت صفية بنت حيي : إني والله يا نبي الله لوددتُ أنّ الذي بك بي ، فتغامزت زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال صلى الله عليه وسلم : “والله إنها لصادقة “.

ومن مواقفها الدالة على حلمها وعقلها ، أن جارية لها أتت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو أمير المؤمنين ، فقالت : إن صفية تحب السبت ، وتصل اليهود ، فبعث عمر رضي الله عنه يسألها ، فقالت :” أما السبت فلم أحبه منذ أبدلني الله به الجمعة، وأما اليهود فإن لي فيهم رحماً فأنا أصلها” ، ثم قالت للجارية: “ماحملكِ على ما صنعت ؟” قالت : الشيطان؛ قالت : “اذهبي فأنت حرة” .

ولم تكن رضي الله عنها تدّخر جهداً في النصح وهداية الناس ، ووعظهم وتذكيرهم بالله عز وجل ، ومن ذلك أن نفراً اجتمعوا في حجرتها ، يذكرون الله تعالى ويتلون القرآن ، حتى تُليت آية كريمة فيها موضع سجدة ، فسجدوا ، فنادتهم من وراء حجاب قائلة : ”  هذا السجود وتلاوة القرآن ، فأين البكاء ؟ ” .

و كانت رضي الله عنها من أكثر النساء عبادة و وورعًا وزهدًا وبرًا وصدقة فكانت لها دار تصدقت بها في حياتها .

وعاشت أمنا رضي الله عنها بعد وفاة الحبيب صلى الله عليه وسلم قرابة اربعين سنة في طاعة الله

ولقد عايشت رضي الله عنها عهد الخلفاء الراشدين ، حتى أدركت زمن معاوية رضي الله عنه ، ثم كان موعدها مع الرفيق الأعلى سنة خمسين للهجرة ، لتختم حياة قضتها في رحاب العبادة ، دون أن تنسى معاني الأخوة والمحبة التي انعقدت بينها وبين رفيقاتها على الدرب ، موصيةً بألف دينار لعائشة بنت الصدّيق رضي الله عنها ، وقد دفنت بالبقيع ، فرضي الله عنها وعن سائر أمهات المؤمنين.

المصادر
صفة الصفوة/ابن الجوزي
أمهات المؤمنين/محمود المصري موقع قصة الإسلام

جمع وترتيب ا.سعاد ابو النجا

You May Also Like