شرح مقدمة الأربعين النووية(٢)
قال النووي رحمه الله “وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له” بدأ بالبسملة، ثم ثنى بالحمد، ثم ثلث بالشهادة, وقد جاء في ذلك الأحاديث المعروفة ومن طرق كثيرة: ((كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر))، و((كل أمر ذي بال -يعني شأن يهتم به شرعًا- لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع أو أجذم)) و((كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذمى)). على كل حال العلماء يمتثلون هذه الأحاديث وإن كانت لا تَسْلَم من مقال، بل بعض العلماء حكم على جميع ألفاظها بالضعف، وأما الرواية التي فيها (الحمد) -على وجه الخصوص- فقد حسنها النووي، وجمع من أهل العلم كابن الصلاح وغيره. ولا يعني أننا إذا ضعفنا الأحاديث بجميع ألفاظها وطرقها أننا لا نبدأ بالبسملة، فالقرآن ابتدئ بالبسملة، والحمدُ ابْتُدِئَ به القرآنُ أي بفاتحة الكتاب, وخطب النبي -عليه الصلاة والسلام- تفتتح بالحمد والشهادة أيضًا.
وبعض الناس إذا سمع التضعيف قال: لا داعي لأن نبدأ بالبسملة, والحمدلة, والشهادة ما دامت الأحاديث ضعيفة، والعمل بالحديث الضعيف لا يجوز العمل به -على ما سيأتي تقريره في هذه المقدمة. ومن يقول: إن الحديث الضعيف لا يعمل به مطلقًا، ثم يأتي إلى مثل هذا الحديث ويقول: الأحاديث في هذا الباب ضعيفة, فيدخل في مراده مباشرة أنه يُبدأ بغير البسملة والحمدلة والشهادة. ومع الأسف فقد وجد بعض الكتب، ووقفت على واحدها موضوعه شرعي، يقول صاحبه: “كانت الكتب التقليدية تبدأ بالبسملة والحمدلة”, فرأى هذا المجدد أن البسملة والحمدلة لا داعي لذكرهما مع ضعف الأحاديث. وهذا قصور في الفهم، فهو لا يفرق بين ما ثبت بأصول متضافرة متكاثرة، وبين ما لم يرد إلا في هذا الحديث الضعيف.
“وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد القهار”، هذه الشهادة المنْجِية, يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله…)).
“وأشهد أن سيدنا محمدًا” الشهادة الأولى لا تصح إلا بالثانية، كما أن الثانية لا تصح إلا بالأولى. فمن يشهد أن لا إله إلا لله وحده لا شريك له، ولا يشهد أن محمدًا عبده ورسوله فشهادته باطلة؛ لأن الأولى مستلزمة للثانية والثانية من شرطها النطق بالأولى وكل واحد منهما مستلزمة ومتضمنة للأخرى. “وأشهد أن سيدنا” الرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((أنا سيد ولد آدم ولا فخر)) فهو سيد الثقلين، وأشرف الخلق أجمعين، وأعلم الناس, وأعرفهم, وأتقاهم, وأخشاهم لله -جل وعلا- فهو السيد فهو سيدنا.
لا مانع من القول (سيدنا محمد) في الكلام المرسَل المطلَق الذي لا يتعبد بلفظه، لكن في الألفاظ المتعبد بها كالتشهد مثلًا لا يجوز أن تقول: وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله؛ لأن هذه متعبد بها, والعبادات توقيفية لا تجوز الزيادة فيها.
“وأشهد أن سيدنا محمدًا عبدُه, ورسولُه” فهذا مقام العبودية، ومقام الرسالة. فالنبي-عليه الصلاة والسلام- يدعى بالعبد في أشرف المواضع، كقوله -تعالى-: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [(19) سورة الجن], وقوله -تعالى-: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [(1) سورة الإسراء]. “عبدُه, ورسوله, وحبيبه, وخليله, أفضل المخلوقين” فهو -بلا نزاع- أفضل الرسل فضلًا عن غيرهم، وجاء عنه -عليه الصلاة والسلام-: ((لا تفضلوا بين الأنبياء ولا تفضلوني على يونس بن متَّى)) فمنع -عليه الصلاة والسلام- التفضيل, وهذا محمول على حالة واحدة وهي: إذا اقتضى المقام تنقص المفضل عليه، فحينئذ يقال: لا تفضلوا الأنبياء، وإلا فالتفضيل بين الأنبياء في منطوق الكتاب العزيز: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [(253) سورة البقرة]. . على كل حال إذا اقتضى التفضيل تنقص المفضول منع وحسمت مادته بقوله -عليه الصلاة والسلام-: ((لا تفضلوا بين الأنبياء))، وإلا فالأصل أن التفضيل واقع وثابت في منطوق القرآن.
“المكرم بالقرآن العزيز”، هذا القرآن شرف لمحمد -عليه الصلاة والسلام- ولأمته, قال الله -عز وجل-: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [(44) سورة الزخرف] يعني شرف لك ولقومك, فهو مكرَم, ومفضَّل على غيره.
“بالقرآن العزيز” بكلام الله -جل وعلا- المحفوظ, الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، المعجز بألفاظه ومعانيه وأحكامه وأسراره.
“المعجزة المستمرة على تعاقب السنين”, الرسالة الخالدة إلى قيام الساعة, فمعجزة نبيها خالدة؛ لأن المعجزة تبقى وتدوم ببقاء الدين، فلما كان هذا الدين إلى قيام الساعة كانت المعجزة قائمة إلى قيام الساعة، بخلاف معجزات الأنبياء فهي باقية ببقائهم.
“وبالسنن المستنيرة للمسترشدين”، فهو -عليه الصلاة والسلام- مكرم بالقرآن العزيز, ومكرم أيضًا بالسنن، والمراد بالسنن سنته -عليه الصلاة والسلام- شقيقة القرآن.
“المستنيرة للمسترشدين”، المبينة للقرآن, يعني دلالات القرآن؛ لأن في كثير منها إجمال وقد بُيِّن هذا الإجمال بالسنة, فهي منيرة لطالبي الرشاد.
“المخصوص بجوامع الكلم”، فالأصل الكلم الجامع, وهذا من إضافة الصفة إلى موصوفها، وهو ما يجمع المعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة.
“وسماحة الدين” النبي -عليه الصلاة والسلام- بعث بالحنيفية السمحة، قال -عليه الصلاة والسلام- : ((إن الدين يسر -ولله الحمد- ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه)), وقال -عليه الصلاة والسلام-: ((وعليكم من الدين ما تطيقون))، وقال -عليه الصلاة والسلام-: ((بشرا ولا تنفرا، يسرا ولا تعسرا)).
الدين سمح ميسر كما أن دستوره الخالد القرآن ميسر, قال الله -تعالى-: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [(17) سورة القمر], فالدين يسر ولله الحمد. وكون الدين يسر لا يعني أن الإنسان يتفلت من الأوامر والنواهي مستشهدا بأن الدين يسر, بل هو دين تكاليف أيضًا, قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((حفت الجنة بالمكاره)).
يقول الله -جل وعلا- عن بيته المحرم-: {لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ} [(7) سورة النحل], فالحج فيه مشقة، والصيام في أيام الصيف الحارة فيه مشقة، والصلاة في الليالي الشديدة البرد شاقة، والجهاد شاق. إذًا الدين يسر يعني فيما يحتمله المكلف في ظروفه العادية؛ لأن الإنسان مستعد أن يعمل من طلوع الشمس إلى غروبها، وقد يعمل من طلوع الشمس إلى نصف الليل في تجارته، ويحمل الأثقال ويصبر على الحر والبرد فهذا محتمل، ولا يقول: إننا لا نطيق الصيام في الحر ومع ذلك يزاول تجارته في الحر، فهذا هو الضابط لليسر. أما ما أوجبه الله -جل وعلا- فلا مساومة عليه، بخلاف ما يفعله المكلف مما وراء ذلك من مستحبات فيقال فيها: ((اكلفوا من العمل ما تطيقون))،
(( لن يشاد الدين أحد إلا غلبه)): النبي -عليه الصلاة والسلام- منع من أراد أن يصوم ولا يفطر وأن يقوم ولا ينام، ومنع ابن عمر -رضي الله عنه- أن يقرأ القرآن في أقل من سبع, فقال له: ((اقرأ القرآن في سبع ولا تزد)).
وكل هذا من أجل الاستمرار؛ لأن أحب الدين إلى الله أدومه وإن قل. فهذه الشريعة -ولله الحمد- سِمَتُها أنه ليس فيها آصار, ولا أغلال, ولا تكليف بمحال, وما لا يطاق، ولكن فيها تكاليف، فيها ما فيه مخالفة لهوى النفس وهذا من أشق الأمور؛ ولذا صبر الكفار على القتل في مقابل ألا يخالفوا هواهم، والله المستعان.
“صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين وآل كل وسائر الصالحين” جمع بين الصلاة والسلام امتثالًا للأمر في قوله -جل وعلا-: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [(56) سورة الأحزاب], فلم يقتصر على الصلاة فقط دون السلام أو العكس، بل أطلق النووي -رحمه الله تعالى- الكراهة على من صلى فقط ولم يسلم أو العكس, كما في شرحه على صحيح مسلم، وذلك حين صلى الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- على النبي -عليه الصلاة والسلام- ولم يسلم عليه؛ لأن الصلاة فقط, أو السلام فقط لا يتم به امتثال الأمر في الآية. والحافظ ابن حجر خص الكراهة بمن كان ديدنه ذلك: يعني يصلى دائمًا ولا يسلم، أو يسلم دائمًا ًولا يصلي, فهذا تتجه الكراهة في حقه، أما من كان يجمع بينهما أحيانًا، يصلي أحيانًا، يسلم أحيانًا فهذا لا تتجه الكراهة في حقه.
ثم بعد ذلك عطف على النبي -عليه الصلاة والسلام- سائر النبيين. فالأنبياء يصلى عليهم ويسلم استقلالًا، وأما من عداهم فيصلى عليهم ويسلم تبعًا. فإذا ذكروا بعده -عليه الصلاة والسلام- يصلى عليه, مثل قولنا: “اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه وسلم”، فيصلى عليهم تبعًا لا استقلالًا في قول أكثر أهل العلم.
قوله -رحمه الله-: “وآل كل”، بالتنوين هذا تنوين عوض أي وآل كل واحد منهم, والأصل في الآل أنها تطلق على الأهل، ويدخل فيهم الأزواج والذرية والأقارب، وكذلك يدخل فيهم الأتباع.
“وسائر الصالحين” “سائر” تطلق ويراد بها الباقي، وتطلق ويراد بها الكل. وهنا باقي الصالحين, يعني بعد أن صليت وسلمت على الآل, تصلي وتسلم على الذي يبقى من الصالحين تبعًا للأنبياء.
“الصالح” هو القائم بحقوق الله -جل وعلا- وحقوق عباده. فهذا الوصف لا بد أن يحرص المسلم على الاتصاف به فيكون صالحًا؛ لئلا يحرم نفسه من دعاء الناس له بالسلامة, كما في أثناء التشهد: “السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين”، وهذه الجملة تقال من وقت محمد -عليه الصلاة والسلام- إلى آخر مسلم يقولها ويكررها في كل صلاة، فالذي يتصف بضد الصلاح قد حَرم نفسه من دعوات المسلمين على مر العصور والأزمان، وهذا حرمان عظيم؛ ألا تحب أن يدعى لك وأنت لا تشعر من قبل الملايين؟! تحرم نفسك من هذه الدعوة؟! بل عليك أن تسعى جاهدًا لتحقيق هذا الوصف.
“أما بعد”: “أما”: حرف شرط وتفصيل. “بعد”: قائم مقام الشرط مبني على الضم، وجوابها المتصل بالفاء “فقد روينا” إلى أخره…
والإتيان ب “أما بعد” في الخطب والمراسلات والدروس سنة ثابتة نقلها أكثر من ثلاثين صحابيًا عن النبي -عليه الصلاة والسلام-. . والفائدة من الإتيان بها الانتقال من موضوع إلى موضوع، من المقدمة إلى صلب الموضوع، أو من موضوع إلى موضوع أخر.
ولو أن النبي -عليه الصلاة والسلام- تكلم بها مرة أو مرتين، أو تركها أحيانًا، وفعلها أحيانًا، كان بإمكاننا أن نقول أنها ليست سنة، لكنه -عليه الصلاة والسلام- ما دام التزم بها في خطبه، وفي مكاتباته، نقول: إن التزامها سنة.
وقد اختلف العلماء في أول من قالها
ولكن الأكثر على أنه داود -عليه السلام-, وهي فصل الخطاب الذي أوتيه.
وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم
المصدر : شرح الأربعين النووية لفضيلة الشيخ عبد الكريم الخضير
جمع وترتيب: رانيا مصطفى