بسم الله الرحمن الرحيم
سلسلة أمهات المؤمنين / عائشة رضي الله عنها (٢)
لقد عاشت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حياتها مع النبي صلى الله عليه وسلم ، كأسعد ماتكون ،ولم يكدر صفوهما ويعكره إلا ذلك الإبتلاء العظيم وتلك المحنة الكبيرة التي حلت بهما
الا وهي حادثة الإفك التي كشفت عن كيد الكائدين للإسلام في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته الأطهار.
وهذا ملخص للقصة:
كان رسول الله صلي الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفرا أقرع بين نسائه رضي الله عنهن ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه ، فاقرع بينهم في غزوة غزاها فخرج سهم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فخرجت معه وكان ذلك بعد نزول آية الحجاب ،وبعد أن فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من غزوته، توجه راجعا ، حتى إذا كان قريبا من المدينة ، نزل منزلا فبات به بعض الليل ، ثم آذن في الناس بالرحيل ، فارتحل الناس،و مشت السيدة عائشة رضي الله عنها مبتعدة عن الجيش حتى قضت حاجتها، ثم عادت إلى راحلتها، فافتقدت عقد لها كان في عنقها ، فعادت تلتمسه. فأقبل الموكلون براحلتها، فأخذوا الهودج وهم يظنون أنها فيه ،فاحتملوه فشدوه على البعير،ثم أخذوا برأس البعير فانطلقوا به ،وهم يعتقدون أنها بداخله، وبعد فترة عادت السيدة عائشة رضي الله عنها لتجد الجيش قد رحل، فانتظرت في موضعها، ظنًا منها أنهم سيفتقدونها فيرجعون لها، ثم غلبها النوم فنامت.
ثم مر الصحابي الجليل صفوان بن المعطل السلمي، وكان على ساقة الجيش يلتقط مايسقط من متاع المسلمين حتى يأتيهم به ،فرأى سواد إنسان نائم ،فأقبل حتى أتاها فرآها فعرفها فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، فاستيقظت السيدة عائشة رضي الله عنها على استرجاعه ،فأناخ راحلته، حتى ركبت، وانطلق بها حتى بلغا الجيش ، وتقول السيدة عائشة رضي الله عنها : (ووالله ! ما كلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه )
وبعد ذلك، انطلقت الأحاديث حول تلك الحادثة، وتكلم الناس وطعنوا في السيدة عائشة رضي الله عنها، وكان على رأس هؤلاء عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين
وبعد عودتها إلى المدينة، اشتكت السيدة عائشة رضي الله عنها من المرض شهرًا، والناس يخوضون في الحديث ،وهي لا تدري مايحدث حولها ، ولكنها استغربت من تغير معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم لها ، وبعد أن نقهت، علمت بما يقول الناس، فازداد مرضها ، ثم استأذنت النبي صلي الله عليه وسلم أن تلحق ببيت أهلها، فأذن لها، ثم إن النبي صلي الله عليه وسلم دخل عليها في بيت أبويها وقال – بعد أن تشهد –:
أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنتِ بريئة فسيبرئك الله عز وجل وإن كنتِ ألممت بذنب فاستغفري الله عز وجل وتوبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه .
فقالت عائشة رضي الله عنها لابويها وقد قلص دمعها :
ألا تجيبان عني رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
فقالا : والله لا ندري بما نجيبه ؟ .
فاستعبرت السيدة عائشة رضي الله عنها وبكت ثم قالت : والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت ابدًا والله إني لاعلم لئن أقررت بما يقول الناس والله يعلم إني منه بريئة لأقولن ما لم يكن ولئن أنا أنكرت ما يقولون لا تصدقونني وإني والله لا اجد لي ولكم إلا قول أبي يوسف: ( فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون )
وقد قالتْ رضي الله عنها كما في الصحيحين: “… ثُمَّ تحولتُ واضطجعتُ على فِراشي، والله يعلم أنِّي حينئذٍ بريئةٌ، وأنَّ الله مُبرِّئي ببراءتي، ولكن واللهِ ما كنتُ أظنُّ أنَّ الله منزلٌ في شأني وحيًا يُتْلَى، لشأني في نفْسي كان أحْقرَ مِن أن يتكلَّم الله فيَّ بأمْر، ولكن كنتُ أرْجو أن يرَى رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – في النومِ رُؤيَا يُبرِّئني الله بها، فواللهِ ما رام رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – مجلسَه، ولا خرَج أحدٌ مِنْ أهل البيت حتَّى أُنزِل عليه، فأخَذَه ما كان يأخُذُه من البُرَحَاء، حتى إنَّه ليتحدَّر منْه مِن العَرَق مثل الجُمَان، وهو في يومٍ شاتٍ مِن ثِقَلِ القوْل الذي أُنزِل عليه.
قالت: فَسُرِّي عن رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو يَضْحَك، فكانتْ أوَّل كَلمةٍ تَكلَّم بها أنْ قال: ((يا عائشةُ، أمَّا اللهُ فقدْ بَرَّأكِ))، قالت: فقالتْ لي أُمِّي: قُومِي إليه، فقلتُ: واللهِ لا أقومُ إليه، فإنِّي لا أحْمَدُ إلاَّ اللهَ – عزَّ وجلّ
قالت: وأنزَل الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ﴾ [النور: 11] الآيات…”.
قال ابنُ كثير: “فغار اللهُ لها وأنْزَلَ براءتَها في عشْر آياتٍ تُتلى على الزمان، فسَمَا ذِكْرُها، وعلا شأنُها؛ لتسمعَ عفافَها وهي في صِباها، فشَهِدَ الله لها بأنَّها مِنَ الطَّيِّبات، ووعدَها بمغفرةٍ ورِزق كريم”.
ومَع هذه المنزِلَةِ العالية، والتبرِئة العالية الزكيَّة مِنَ الله تعالى، تَتَواضَعُ وتقول: “ولَشَأنِي في نفْسي أهونُ مِن أن يُنزِل الله فيَّ قرآنًا يُتْلَى “!
ولكن أبى الله عز وجل إلا أن يظهر الحق ويزهق الباطل فحفظ بيت نبيه صلي الله عليه وسلم من أن يشك في طهارته أو نزاهة إحدى زوجاته أمهات المؤمنين فأنزل الحق تبارك وتعالى براءة أم المؤمنين عائشة بنت ابي بكر الصديق رضي الله عنهما من فوق سبع سموات بآيات تتلى إلى يوم القيامة فانقلبت تلك المحنة التي اكتوت بنارها وتجرعت آلامها إلى مفخرة لها إلى يوم الدين وزاد من حبها إلى رسول الله وارتفعت مكانتها عند المؤمنين .
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فخطبهم وتلى عليهم ما أنزل الله عز وجل من القرآن في ذلك ثم أمر النبي بالذين رموا عائشة رضي الله عنها بالإفك فجلدوا بحد القذف ثمانين جلدة .
وعادت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إلى مكانها في بيت النبوة تحف بها هالة من آيات النور نصرًا إلهيًا جعل براءتها من الافك الاثيم قرآنًا يتعبد به المسلمون إلى يوم أن يرث الله الارض ومن عليها
لقد عاشت السيدة عائشة رضي الله عنها في بيت النبوة ،تقتبس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وتتعلم منه وتشاركه ،فقد شاركت رضي الله عنها في غزوة أحد ،فكانت تسعف الجرحى وتحمل إليهم الماء لتسقيهم وتصلح شؤونهم.
و كانت رضي الله عنها تحب أن تكنى كما تكنى النساء ،فقالت:
( يا رسولَ اللهِ، كلُّ صواحبي لهن كُنى، قال : “فاكتني بابنك عبدِ اللهِ “– يعني ابنَ أختِها، عبدَ اللهِ بنِ الزبيرِ – فكانت تكنى ب : أمَّ عبدِ اللهِ)
صححه الألباني
وعندما غضب الرسول صلى الله عليه وسلم من نسائه ،لاكثارهن عليه في طلب النفقة ،واعتزلهن لمدة شهر كامل ، دخل اول مادخل على السيدة عائشة رضي الله عنها ،وبدء بها يخيرها كما أمره الله تعالى ، فقالت رضي الله عنها :
(أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ جاءَهَا حينَ أَمَرَ اللهُ أنْ يُخْيِّرَ أزواجَهُ ، فبَدَأَ بي رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقالَ : ” إنِّي ذاكِرً لَكِ أمرًا ، فلا عليكِ أنْ لا تسْتَعجِلي حتَّى تَسْتَأْمِري أبَويكِ ” . وقدْ علِمَ أنَّ أبويَّ لمْ يكونَا يأْمُرَاني بفِراقِهِ ، قالتْ : ثمَّ قالَ : ” إنَّ اللهَ قالَ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ } ” إلى تمامِ الآيتينِ ، فقلتُ لهُ : فَفِي أيِّ هذا أستَأْمِرُ أبوَيَّ ؟ فإنِّي أريدُ اللهَ ورسولَهُ والدارَ الآخرةَ.
رواه البخاري
فاختارت رضي الله عنها الله ورسوله والدار الآخرة على الدنيا الفانية ،وفعلت بقية أمهات المؤمنين مثلها واخترن الله ورسوله والدار الآخرة ، اختارت محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وتحملت في سبيل ذلك هى وبقية أمهات المؤمنين صعوبة العيش ، فلقد كان يمر الشهر والشهرين على بيت النبوة لا توقد فيه النار على طعام ، وهاهي رضي الله عنها تحكى لابن أختها عروة بن الزبير عن هذه الفترة فتقول :
“ابن أُخْتي، إنْ كنا لننظرُ إلى الهلالِ، ثم الهلالِ، ثلاثة أهِلَّةٍ في شهرينِ، وما أوقِدَتْ في أبْياتِ رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نارٌ . فقُلْت : يا خَالَةُ، ما كان يُعِيشُكم ؟ قالتْ : الأسودانِ التمرُ والماءُ، إلا أنه قد كان لرسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جيرانٌ من الأنصارِ، كانت لهم منائِحُ (الشاة او الناقة ) وكانوا يَمنحونَ رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من ألبانِهِم فيَسْقينا” رواه لبخاري
ومرت الأيام سريعة ، وحانت لحظة الفراق ، فلقد مرض الرسول صلى الله عليه وسلم واشتد عليه المرض و كان عليه الصلاة والسلام في مرضه يسأل:”أين أنا اليوم ؟ أين أنا غدا” استبطاءا ليوم عائشة رضي الله عنها
رواه مسلم
ثم استأذن عليه الصلاة والسلام زوجاته في أن يكون في بيت عائشة رضي الله عنها تمرضه فأذن له ،وانتقل عليه الصلاة والسلام إلى حجرة السيدة عائشة رضي الله عنها ، تمرضه وتعتنى به
وكان النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ إذا اشتكى يقرأُ على نفسِه بالمعوِّذاتِ . وينفثُ . فلما اشتدَّ وجعُه كانتُ رضي الله عنها تقرأُ عليهِ . وتمسحُ عنهُ بيدِه . رجاءَ بركَتِها .
رواه مسلم
واشتد المرض على النبي صلى الله عليه وسلم ، وتوفى بين يدي حبيبته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، وهاهي تقول :
” إن من نعم الله علي : أن رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم توفي في بيتي، وفي يومِي، وبين سحري (صدري )ونحري(أسفل الرقبة)[أي توفى مستندا إلى صدرها ] وأن الله جمع بين ريقي وريقه عِندَ موته، دخل علي عبد الرحمن، وبيده السواك، وأنا مسندة رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقُلْت : آخذه لك ؟ فأشار برأسه : ( أن نعم ) . فتناولته، فاشتد عليه، وقُلْت : الينه لك ؟ فأشار برأسه : ( أن نعم ) . فلينته، فأمره، وبين يديه ركوة أو علبة فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه، يقول : ( لا إله الإ الله، إن للموت سكرات ) . ثم نصب يده، فجعل يقول : ( اللهم في الرفيق الأعلى ) . حتى قبض ومالت يده”
رواه البخاري
وقالتْ السيدة عائشة رضي الله عنها :“فلمَّا خَرجتْ نَفْسُهُ لمْ أجِدْ ريحًا قطُّ أَطْيَبَ منِها”
ودفن عليه الصلاة والسلام في حجرتها في المكان الذي توفي فيه .
وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم ملأت عائشة رضي الله عنها الأرض علما فكانت أكثر من روى عنه من النساء ،قال الحافظ الذهبي في السير: روت عائشة ألفين ومئتين وعشرة أحاديث.. اتفق لها البخاري ومسلم على مئة وأربعة وسبعين حديثاً، وانفرد البخاري بأربعة وخمسين، وانفرد مسلم بتسعة وستين.
وبعد رحلة طويلة من العلم والعبادة توفت رضي الله عنها في سنة سبع وخمسين من الهجرة وقيل ثمان وخمسين ، في ليلة الثلاثاء لسبع عشرة خلت من رمضان ، بعد أن عاشت ما يزيد عن الثلاث والستين سنة ، وصلى عليها أبو هريرة رضي الله عنه ودفنت في البقيع ولم تدفن في حجرتها فقد آثرت بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ويروي سعيد بن المسيب رضي الله عنه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت:
” رأيت كأن ثلاثة أقمار سقطت في حجرتي، فسألت أبا بكر رضي الله عنه ، فقال: «يَا عَائِشَةُ، إِنْ تَصْدُقْ رُؤْيَاكِ يُدْفَنُ فِي بَيْتِكِ خَيْرُ أَهْلِ الأَرْضِ ثَلاثَةٌ»، فلما قبض رسول الله صلي الله عليه وسلم ودفن، قال لي أبو بكر: « يَا عَائِشَةُ، هَذَا خَيْرُ أَقْمَارِكِ، وَهُوَ أَحَدُهَا»
(المستدرك للحاكم)
ثم دُفن بعد ذلك في حجرتها أبو بكر وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما ، فكان ذلك تمام الثلاثة أقمار.
وقال مالك: بلغني أن عائشة كانت تدخل البيت الذي فيه قبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر حاسرة، فلما دفن فيه عمر لم تكن تدخله إلا جمعت عليها ثيابها. حياءا من عمر .. رضى الله عن عائشة وعمر وسائر الصحابة وامهات المؤمنين .
المراجع
صفة الصفوة / ابن الجوزي
أمهات المؤمنين/ محمود المصري
موقع قصة الإسلام