نفائس الأنفاس
لا شيء أنفس من العمر..!
عمر الإنسان القصير والذي لا يتجاوز عشرات معدودة من السنين سيُسأل عن كل لحظة فيه وعن كل وقت مر عليه وعن كل عمل قام به.
قال صلى الله عليه وسلم: “لا تزولا قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع خصال: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن علمه ماذا عمل فيه؟”.رواه الترمذي وصححه.
وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم:” نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ”رواه البخاري
قال ابن الخازن: النعمة ما يتنعم به الإنسان ويستلذه, والغبنُ أن يشتري بأضعاف الثمن, أو يبيع بدون ثمن المثل.
فمن صح بدنه, وتفرغ من الأشغال العائقة, ولم يسع لصلاح آخرته, فهو كالمغبون في البيع.
والمراد بيان أن غالب الناس لا ينتفعون بالصحة والفراغ بل يصرفونهما في غير محالهما..
فيصير كل واحد منهما في حقهم وبالاً, ولو أنهم صرفوا كل واحد منهما في محله لكان خيراً لهم.
وأكد على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله (اغتنم خمساً قبل خمس, شبابك قبل هرمك, وصحتك قبل سقمك, وغناك قبل فقرك, وفراغك قبل شُغلك, وحياتك قبل موتك) أخرجه الحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين.
عمر الإنسان هو موسم الزرع في هذه الدنيا وحصاد ما زرع يكون في الآخرة.. فلا يحسن بالمسلم أن يضيع أوقاته وينفق رأس ماله فيما لا فائدة فيه.
ومن جَهِل قيمة الوقت الآن فسيأتي عليه حين يعرف فيه قدره ونفاسته وقيمة العمل فيه, ولكن بعد فوات الأوان, وفي هذا يذكر القرآن موقفين للإنسان يندم فيهما على ضياع وقته حيث لا ينفع الندم:
الموقف الأول: ساعة الاحتضار,
حيث يستدبر الإِنسان الدنيا ويستقبل الآخرة, ويتمنى لو منح مهلة من الزمن, وأُخر إلى أجل قريب ليصلح ما أفسده ويتدارك ما فات.
الموقف الثاني: في الآخرة حيث توفى كل نفس ما عملت وتُجزى بما كسبت ويدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، هناك يتمنى أهل النار لو يعودون مرة أخرى إلى حياة التكليف , ليبدءوا من جديد عملاً صالحاً..
هيهات هيهات لما يطلبون فقد انتهى زمن العمل وجاء زمن الجزاء.
ونلحظ في زماننا هذا الجهل بقيمة الوقت والتفريط فيه..هذا الزمن زمن العجز.. زمن الدعة والراحة والكسل، ماتت الهمم وخارت العزائم
تمر الساعات والأيام ولا يحُسب لها حساب
بل إن هناك من ينادي صاحبه
تعال.. لنقضي وقت الفراغ..!!
فهل لدى المؤمن وقت فراغ؟
أليس الله يقول:( فإذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) الشرح ٧-٨
إذا فرغت من شغلك مع الناس ومع الأرض ومع شواغل الحياة..
إذا فرغت من هذا كله فتوجه بقلبك كله إذن إلى من يستحق أن تنصب فيه وتكد وتجهد أي العبادة والتجرد والتطلع والتوجه.
لنعد قليلاً.. في سطور مضيئة وكلمات صادقة إلى حال من سبقنا لنرى كيف نظروا إلى هذه الأوقات.. وماذا عملوا فيها.. وكيف استفادوا منها..
قال عبدالله بن مسعود: – ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي.
ودخل رجلٌ على داود الطائي يوماً فقال: إن في سقف بيتك جذعاً مكسوراً..فقال: يا ابن أخي.. إن لي في البيت عشرين سنة ما نظرت إلى السقف.
رحمهم الله.. وماذا عن واقع حياة عامة الناس اليوم.. حديث بدون فائدة وأسئلة بلا نهاية.. متى كُسر هذا..؟ ومتى فُتح هذا..؟ ومتى أخذ هذا..؟ ثم تفصيل طويل لا يُفيد مستمع ولا ينفع متحدث..
أعيدي أختي إن استطعتِ خمس ساعات من عمرك لتسبحي تسبيحة واحدة!؟
أرأيتِ الغبن وضياع رأس المال دون فائدة؟!. أما إذا امتد الحديث لغيبة ونميمة فتلك شر المجالس وبئس الأُنس.. في مقابل ما يضيع من أعمارنا دون فائدة لنرى كيف كانوا يستثمرون اللحظات ويستفيدون منها.. إنهم أهل الطاعة والعبادة..
قالت داية لداود الطائي: يا أبا سليمان أما تشتهي الخبز..؟ قال: يا داية بين مضغ الخبز وشرب الفتيت قراءة خمسين آية!
وقال ابن مهدي.. كنا مع الثوري جلوساً بمكة, فوثب وقال: النهار يعمل عمله.
أختي الحبيبة.. أين نحن من هؤلاء؟
وهذا صباح اليوم ينعاك ضوءه وليلته تنعاك إن كنت تشعرين.
كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة, وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة, ولكل منهما بنون , فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا, فإن اليوم عمل و لا حساب وغداً حساب ولا عمل.
وحال الكثير اليوم كما تعجب منه أحد الحكماء بقوله.. عجبت ممن الدنيا مولية عنه والآخرة مُقبلة إليه يشغل بالمدبرة ويعرض عن المقبلة.
تمر الخواطر وتتتابع الأسئلة ولكن.. هل سألت نفسك يوماً لماذا تعيشين؟
بالجواب يتحدد الهدف ويتضح الطريق ويسهل الوصول..
لنسمع جواب أبي الدرداء رضي الله عنه حين قال.. لولا ثلاث ما أحببت العيش يوماً واحداً.. الظمأ لله بالهواجر والسجود لله في جوف الليل, ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما يُنتقى أطايب التمر.
وهذه الدنيا كما وصفها عمر بن عبد العزيز بقوله..إن الدنيا ليست بدار قراركم, كتب الله عليها الفناء وكتب الله على أهلها الظعن, فكم من عامر موثق عن قليل يخرب, وكم من مقيم مغتبط عما قليل يظعن, فأحسنوا رحمكم الله منها الرحلة بأحسن ما بحضرتكم من النقلة, وتزودوا فإن خير الزاد التقوى.
وإذا لم تكن الدنيا للمؤمن من دار إقامة ولا وطن فينبغي للمؤمن أن يكون حاله فيها على أحد حالين..
إما أن يكون كأنه غريب مقيم في بلد غربة, همه التزود للرجوع إلى وطنه، أو يكون كأنه مسافر غير مقيم ألبتة، بل هو ليله ونهاره يسير إلى بلد الإقامة.
فإن من تيقن ذلك ونظر إليه بعين المتأمل كان مثل عبدالرحمن بن أبي نعم عندما قال عنه بكير بن عبدالله.. كان لو قيل له قد توجه إليك ملك الموت ما كان عنده زيادة عمل..
وقال الحسن.. يا ابن آدم إنك ناظر إلى عملك يوزن خيره وشره، فلا تحقرن من الخير شيئاً وإن هو صغر فإنك إذا رأيته سرّك مكانه ولا تحقرن من الشر شيئاً فإنك إذا رأيته ساءك مكانه رحم الله رجلاً كسب طيباً وأنفق قصداً وقدم فضلا ليوم فقره وفاقته. هيهات هيهات، ذهبت الدنيا بحال بالها، وبقيت الأعمال قلائد في أعناقكم، أنتم تسوقون الناس، والساعة تسوقكم، وقد أسرع بخياركم فماذا تنتظرون.
المراجع/
كتاب الوقت أنفاس لا تعود لعبد الملك القاسم.
ملتقى أهل الحديث.
جمع وترتيب/ ا. زينب الكيلاني