{ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } الذي وسعت رحمته جميع الخلق ، فهو الموصوف بالرحمة مع كمال قوته وقهره وكمال غناه وعزته ، أرحم بعباده من الأم بولدها ، فرحمة والديك بك مهما بلغت فهي جزءٌ من المائة جزءٍ التي خلقها اللَّه فكيف برحمته الواسعة جل جلاله وتقدست أسماؤه ؟! فلو جُمعت رحمة الخلق كلهم لكانت رحمة الله أشد وأعظم.
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : جاءت امرأة في السبي تبحث عن ولدها فلما وجدته أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أترون هذه المرأة طارحة وَلَدَها في النار ؟ قُلْنَا: لَا وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ ! فقال : إن اللَّه أرحم بعباده من هذه بولدها. صحيح البخاري _ الفتح 5999 ومسلم 2754.
– إن الأم تهتم – عادة – بتربية طفلها ، وتلبية حاجاته، والحفاظ عليه ، وتتحمل الأذى في سبيل ذلك ، وذلك ليس نتيجة شعورها بالواجب ، بل لأنها تلاحظ عجزه عن الأكل والشرب، وعن الحركة ، وعن دفع الحر والبرد وسائر الأخطار عن نفسه ، فتندفع بدافع من الشعور بالرحمة والعطف لرفع هذا النقص فتحميه وترعاه وتسهر عليه ، فإذا كانت هذه رحمة الأم فكيف رحمة رب العالمين ! فما أحوجنا لتذكر هذا الأمر ، وما أشد غفلتنا عنه .
– في مجيء { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } بعد { رَبِّ العَالَمِينَ } بيان أن شمول الربوبية لا يخرج شيء منها عن شمول الرحمة وسعتها ، فاستحضر وأنت تردد { رَبِّ العَالَمِينَ } معاني ربوبيته وآثارها في الخلق ، فإن استحضارها يجعل القلب يلين تعظيماً لله , وثناءً عليه وإجلالاً له ومحبة ، واستشعر وأنت تقرأ { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } أن الله أرحم بك من نفسك التي بين جنبيك ، وأن الرحمة الحقيقية هي إيصال المنافع والمصالح إلى العبد ، وإن كرهتها نفسه .
– كلما كنت أعرف بمعنى هذين الاسمين كنت أرضى بقضاء الرب سبحانه وتعالى وعلمت أن قضاء الله عز وجل دائر بين العدل ، والحكمة والرحمة ،كما قال صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور : ( اللهم اني عبدك وابن عبدك ، وابن أمتك ، ماضٍ فيّ حكمك ، عدل فيّ قضاؤك …. ) الحديث . رواه أحمد برقم 799 وصححه الألباني . فشهودك نعمة الله عليك في كل شيء حتى في المكروه يجعلك تتيقن أن كل ما في العالم من محنة وبلية وألم ومشقة فهو وإن كان عذاباً وألماً في الظاهر إلا أنه حكمة ورحمة في الحقيقة.
– إن شعور العبد بمعية الله وصحبته وهو يردد تلك الكلمات في كل صلاة بل في كل ركعة يجعله في أنس دائم ، ونعيم موصول بقربه ، ويحس دائماً بالنور يغمر قلبه ، ولو أنه في ظلمة الليل البهيم ، ويشعر بالأنس يملأ عليه حياته وإن كان في وحشة من الخلطاء والمعاشرين ، كيف لا وهو يردد كلمة الحمد على من ربَّاه وأحسن إليه وصرَّف أحواله ، ودبر أموره ، فلا يقلق إذا تعسر أمر ، ولا يحزن إذا فاته شيء ، فهو أرحم الراحمين ، بيده الرحمة التي لا يستطيع أحدٌ من خلقه أن يحجبها عنه أو يمنعها .
– إن أعمق درجات المعرفة هي المعرفة الوجدانية ، وإن وصول الإنسان إلى ربه ومعرفته إياه حق المعرفة تكون من خلال إحساسه بنعمته وفضله عليه ، لأن معرفته تعالى عن طريق الإحساس بالنعمة والاعتراف بها تكون أعمق وأدق وأكثر تأثيراً من معرفته عن طريق الاستدلال الفلسفي ، العقلي ، النظري ، لأن هذه المعرفة حسية ، وجدانية ، فطرية ، يتفاعل معها العبد بأعماقه ، وبكل أحاسيسه ومشاعره ، وفطرته .
– يقينك بهذه الآيات سبب فوزك بنعيم الدنيا الذي هو سكينة القلب واطمئنان النفس ، لأن العبد عندما يفوز بهذه المعرفة يسكن جنة الدنيا قبل جنة الآخرة ، لأنه لا يزال راضياً عن ربه ، والرضا ، كما قال أحد السلف جنة الدنيا ومستراح العارفين ، أما الجاهل برب العالمين الرحمن الرحيم فتراه جاحداً لنعمه ، منكراً لفضله ، ساخطاً من قضائه ، لأن من لم يعرف ربه ومعبوده ، لايهنأ بعيش ، وكما قال ابن القيم : فقلب العبد لا يزال يهيم في أودية القلق وتعصف به رياح الاضطراب حتى يعرف ربه ومعبوده حق المعرفة . ا.هـ
– في الآيات السابقة يريد جل وعلا أن يطرح قضية التوحيد من خلال التعريف بأسمائه وصفاته ، والإحساس المباشر بآثارها في الحياة ، فهي ليست مجرد أمر تصوري ، أو نظري ؛ بل بيّن جل وعلا ما يفهمه الإنسان ، ويتلمسه بوجدانه ، ويتحسسه بمشاعره ، من خلال إحساسه بالنعمة الغامرة ، وبالعطاء ، وبآثار الرحمة ، التي يتلمس الإنسان آثارها في كل آن على مدار اللحظات ، في نفسه ، وفي كل ما يحيط به .
– من تعرف على أسماء الله وصفاته من خلال هذه السورة وغيرها من السور وجدها مدائح وثناء يعجز الوصف عنها والإحاطة بها، كما قال ابن القيم : فلله سبحانه محامد ومدائح وأنواع من الثناء لم تتحرك بها الخواطر، ولا هجست في الضمائر، ولا لاحت لمتوسم، ولا سنحت في فكر، ففي دعاء أعرف الخلق بربه، وأعلمهم بأسمائه وصفاته ومحامده صلى الله عليه وسلم قال : «أسأَلُك بكلِّ اسمٍ هو لكَ، سَمَّيتَ به نفسك ، أو أنْزَلتَه في كتابك ، أَو استَأثَرْتَ به في علم الغيب عندَك : أن تجعلَ القرآن ربيعَ قلبي ، وجَلاءَ هَمِّي وذهاب غَمِّي» وفي الصحيح عنه في حديث الشفاعة لما يسجد بين يدي ربه قال: «ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَي وَيُلْهِمُنِى مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ لأَحَدٍ قَبْلِى» .
– كما أن { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } كلمة المؤمن يكررها في كل حال ومقال ، فإن الحمد يستمر مع المؤمن حتى بعد دخول الجنة ،كما قال تعالى : { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } يونس 10 .
– في ذكر الربوبية ما يثير المهابة ، وفي ذكر الرحمة ما يثير الرجاء؛ وكلاهما أي : الربوبية والرحمة يؤدي إلى الحب ؛ فهو محبوب لكماله وعظمته فهو رب العالمين، ومحبوب لرحمته فالقلوب مجبولة على حب من أحسن إليها ، فاستشعار تلك الكلمات وتدبرها ، يقوي العلاقة بينك وبين ربك، لأنه واقع حي، تتلمسه بأحاسيسك الظاهرة قبل الباطنة ، في كل حين ، وفي كل مجال .
– إذا تأمل العبد هذه المعاني العظيمة أثناء قراءته أو حتى بعد خروجه من الصلاة ، تفجرت ينابيع الثناء والحمد من على لسانه وقلبه ، ولهج بالثناء على الله ثناء محبة وتعظيم وتذلل ، وطاعة وإنابة ، أما من جهل تلك المعاني فلا يتحقق منه ذلك
– من لم يباشر قلبه حلاوة هذه المعاني وجذبها للقلوب والأرواح ، فليعالج قلبه بالتقوى، وليخرج منه الأمراض التي حالت بينه وبين نصيبه من ذلك ، وأن يلجأ إلى الله الرحمن الرحيم أن يحيي قلبه ويزكيه ، ويجعل فيه الإيمان والحكمة، فالقلب الميت لا يذوق طعم الإيمان، ولا يجد حلاوته، ولا يتمتع بالحياة الطيبة التي هي من آثار تلك المعرفة .
كتبته أ. عائشة عبدالرحمن القرني
سلسلة ( أفلا يتدبرون القرآن )