إن أعظم الكتب كتاب الله تبارك وتعالى ؛ وإن أعظم سورة في ذلك الكتاب هي سورة الفاتحة ؛ فهي بالنسبة للقرآن كالخطبة أو المقدمة بالنسبة للكتاب؛ والقرآن شرح لها؛ ومعلوم أنه كلما كان صاحب الكتاب أعلم وأبلغ كان تلخيصه لمقاصد كتابه في مقدمته أكمل؛ هذا بالنسبة لكلام المخلوقين الذين علَّمهم الله تبارك وتعالى من النطق والبيان بحسب حاجتهم وأهليتهم ؛ فكيف إذا كان الكتاب كتاب رب العالمين ؟!
فالفاتحة أعظم السور وأم القرآن ، جمعت جميع مقاصد القرآن ولذلك سميت أم القرآن ، وارجع إلى التفاسير لترى كثرة أسمائها وفضائلها ، وحُق لمن قرأها بتدبر وامتثال أن يمتلىء قلبه يقيناً وإيماناً ، وأن يكون عالماً راسخاً أكرمه الله بنور العلم واليقين .
– قال تعالى :{ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } النحل : 98.
ليست الاستعاذة من القرآن بالإجماع ، وإنما نذكرها طاعة لله تعالى ، واعتصاماً به ولجوءاً إليه أن يمنعنا من الشيطان الرجيم الذي يصرفنا عن تدبر ما نقرأ من كتاب الله .
– إن أعظم غاية المؤمن في هذه الحياة أن يستقيم على أمر الله ، ولا يمكن أن يستقيم على أمر الله إلا أن يكون متحرزاً من شرور الشيطان وجنوده من الإنس والجن .
– حين تقول الاستعاذة استشعر أنك تطلب التحرز من الله جل وعلا ، فإذا لجأت إلى الله أن يعيذك من الشيطان الرجيم ، ويعصمك منه ، كان هذا سبباً في حضور قلبك ، واستعداد نفسك ، فاعرف معنى هذه الكلمة ، واستشعر معناها .
– { بسم الله الرحمن الرحيم } افتتاح القرآن بهذه الكلمة العظيمة التي هي من أعظم ما أنعم الله جل وعلا على عباده المؤمنين ، وهذا إقرار منك بأن الله عز وجل هو المعين لك في كل أمورك ، وأعظمها قراءة القرآن .
5- قولك { بسم الله } يعني : أتلو القرآن مستعيناً بكل اسم من أسماء الله ، لأن أسماء الله جل وعلا كلها لمسمى واحد ، هو الله سبحانه ، ولكن كل اسم منها يدل على صفة من صفاته تنـزهه وتقدسه ، فاسم الله هو أصل الأسماء ، والدال على جميع الأسماء الحسنى والصفات العلى .
– حين تستحضر عند قولك :{ بسم الله } بعض الأسماء ، يفتح الله على قلبك أنواعاً من العبودية ،كلٌ مما يناسب حالك ومقصودك ، فإذا قلت :{ بسم الله } وأنت في كرب استحضر أسماء الله التي فيها تفريج الكروب ، وإذا قلت :{ بسم الله } وأنت مغلوب استحضر أسماء الله التي فيها النصر والتأييد، وإذا قلت :{ بسم الله } وأنت مذنب استحضر أسماء الله التي فيها التوبة والعفو والغفران ، وإذا قلت : { بسم الله } وأنت محتاج استحضر أسماء الله التي فيها الرزق والغنى … .
– في قوله تعالى : { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } دلالة على سعة رحمته وتقوية الرجاء في قلوب عباده ، وقد اختار سبحانه هذين الوصفين في البسملة التي يرددها المسلم في مختلف شؤونه وحالاته ، فالإنسان في سير حياته تشمله العناية الإلهية بالرحمة الشاملة ، ومن حكمة تكرار هذه الكلمة أننا نحتاج هذه الرحمة في كل طرفة عين ، وفي كل حال ومجال .
– لم تُذكر في البسملة صفات أخرى ، مثل التواب ، الغفور ، الشافي ، الكريم ، الرازق ، الرؤوف … ، لأن كل هذه الأمور وغيرها مآلها إلى صفة الرحمة ، فمن خلال الرحمة يصدر ذلك كله عنه سبحانه ، فيرزق ، ويشفي ، ويدبر ، ويتوب ، ويغفر .. فالدخول من باب الرحمة ، يوصلك إلى مضمون سائر الصفات ، فهو يشفيك لأنه الرحيم ، ويعطيك لأنه الرحيم ، ويتوب عليك لأنه الرحيم ، ويرزقك لأنه الرحيم ، وينصرك لأنه الرحيم …
– البسملة آية من القرآن ولكنها منفصلة من السور ، ونزلت للفصل بين السور .
– في قوله تعالى : { الْحَمْدُ لِلَّهِ } أمر من الله سبحانه وتعالى لعباده بالتوجه إليه بالحمد الكامل والثناء الشامل في كل صلاة ، فالحمد ثناء أثنى به الله تعالى على نفسه ، وقوله : { لله } اللام للاختصاص والاستحقاق ، فالمستحق لهذا الحمد الخالص الشامل هو الله تعالى ، وفي الحديث : ( اللهم لك الحمد كله ) البخاري 1 / 243 .
– القائل : { الْحَمْدُ لِلَّهِ } في هذا الموضع هو الله تبارك وتعالى ، ولا شيء من الكلام المجمل أكبر وأشمل وأعلى من هذه الكلمة ؛ فكل صفة عليا واسم حسن وثناء جميل، وكل حمد ومدح وتسبيح وتنزيه وتقديس وإجلال وإكرام فهو لله عز وجل على أكمل الوجوه وأتمها وأدومها، وجميع ما يوصف به ، ويذكر به، ويخبر عنه به ، فهو محامد له وثناء وتسبيح وتقديس .
– كلمة الحمد معناها الإخبار بمحاسن المحمود مع حبه وإجلاله وتعظيمه ، فهو الواحد الذي لا شريك له في ربوبيته ، ولا في إلهيته، ولا مثيل له في ذاته ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله، وليس له من يشركه في ذرة من ذرات ملكه، أو يخلفه في تدبير خلقه، أو يحجبه عن داعيه أو مؤمليه أو سائليه، أو يتوسط بينهم وبينه بتلبيس أو فرية أو كذب كما يكون بين الرعايا وبين الملوك، بل هو ملك الملوك الذي له القدرة التامة، والمشيئة النافذة، والحكمة البالغة، والعزة الغالبة ، والكلمات التامة التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر .
– أعظم كلمة ترددها في حياتك وتهنأ بها نفسك هي كلمة : { الْحَمْدُ لِلَّهِ } ، وأحق كلمة قالها العباد هي كلمة : { الْحَمْدُ لِلَّهِ } ، وكل حمد يقع منهم في الدنيا والآخرة هو المستحق له سبحانه ، وجميع أنواع الحمد هي له لا لغيره ، فسبحانه وبحمده، لا نحصي ثناءً عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني به عليه خلقه، فله الحمد أولاً وآخراً، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه .
– قول : { الْحَمْدُ لِلَّهِ } هو الشعور الذي يجب أن يفيض به قلب المؤمن بمجرد ذكره لله ، بل إن وجود هذا الشعور في قلب المؤمن هو من فيوض النعمة الإلهية التي تستجيش الحمد والثناء ، فتفاصيل حمده سبحانه وما يحمد عليه لا تحيط بها الأفكار ولا تحصيها الأقلام ، فهو المستحق للحمد كله في جميع الأوقات ، وبعدد اللحظات ، وكل حمد وقع من أهل السماوات والأرض ، الأولين والآخرين ، إخبار عن ما يستحقه من الحمد ، لا عما يقوله العبد من الحمد .
– استحضار كلمة { الْحَمْدُ لِلَّهِ } أثناء قراءتها في الصلاة أو خارجها يفتح للعبد أبواباً من محبة الله وتمجيده وتعظيمه وحسن الثناء عليه ، ويفيض على قلبه أنواعاً من العلم ، والمحبة ، وحسن الظن بالله ، والتوكل على الله عز وجل ، ويفتح له من العبادات القلبيه التي لا يعلمها إلا من عاشها وعرفها ، فهو يستحضر حين يقرأ هذه الكلمة الأسماء العظيمة التي لله جل وعلا وآثارها على نفسه .
– في قوله تعالى :{ الْحَمْدُ لِلَّهِ } جاء تقديم وصفه بالألوهية على وصفه بالربوبية ، فلم يقل جل وعلا : الحمد لرب العالمين ، بل قال : {الْحَمْدُ لِلَّهِ } ، للتذكير بأعظم نعمة أنعمها عليك وهي نعمة العبودية ، فالله هو المألوه المعبود الذي تألهه الخلائق محبةً وتعظيماً وخضوعاً وفزعاً إليه في الحوائج والنوائب .
– إن من أعظم نعم الله عليك أن جعلك عبداً له خاصة ، ولم يجعلك منقسماً بين شركاء متشاكسين، ولم يجعلك عبداً لإله غيره ، لا يسمع صوتك ، ولا يبصر أفعالك، ولا يعلم أحوالك، ولا يملك لك ضراً ولا نفعاً ، ولا وموتاً ولا حياةً ، ولا نشوراً، ولا تُرفع إليه الأيدي ، ولا يصعد إليه الكلم الطيب، ولا يُرفع إليه العمل الصالح ، فله الحمد أعظم حمد وأتمه وأكمله على ما منَّ به من معرفته وتوحيده والإقرار بصفاته العليا وأسمائه الحسنى .
– كلمة ( الحمد ) مفتاح المعارف الاعتقادية ، وتأتي كنتيجة قلبية بعد التعرف على الله من خلال تدبر الألفاظ التي نكررها ، فتكرار السورة في كل ركعة يجعل المتدبر قادراً على استشعار الحمد في مختلف الحالات والظروف التي تمر به في السراء والضراء ، في الغنى والفقر ، في القوة والضعف ، في إقبال الدنيا وإدبارها ، في العز والذل .
– المؤمن يعيش حالة دائمة من الحمد لله عز وجل مردها اليقين والرضا بأمر الله ، بل يصل إلى شكر الخالق على قضائه وقدره ليقينه أن كل ما يقضي به خالقه هو خير له . عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ماأنعم الله على عبدٍ نعمة فقال : الحمدلله إلا كان الذي أعطاه أفضل مما أخذ) . سنن ابن ماجه 2/ 1250 . حسنه البوصيري ووافقه الألباني .
– لا يكون حامداً من جهل صفات المحمود ، ولا يمكن أن يكون حامداً كل الحمد إذا لم يعرف نعم الله عليه ويعترف بها ، وإن قال ذلك بلسانه ، فكم هم الذين يرددون هذه الكلمة ولكن كما قال تعالى :{ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ في قُلُوبِهِمْ }. فلفظ الحمد يلفظه كل أحد ، ولكن لفظ القلب لايتأتى إلا للقلب المعمور بحبه ومعرفته ، فمجرد الادعاء لايعبّر عن الحقيقة ، فالحمد كلمة يقولها القلب قبل اللسان لتنعكس على الجوارح ، فتخضع لله شكراً وسلوكاً وعملاً .
– في قوله تعالى : { رَبِّ العَالَمِينَ } تأكيد لاستحقاقه كل الحمد ، فكل خير ونعمة في العالمين فهي من عنده ؛ وكل خلق وإبداع فهو راجع إليه ، فهو رب كل شيء وخالقه ، لا يخرج شيء عن ربوبيته ، المالك المتصرف في هذا الكون بأجمعه ، وكل من في السموات والأرض عبدٌ له في قبضته ، مربي جميع العالمين بخلقه إياهم ، وإنعامه عليهم ، وتدبير أمورهم ، وأخص من هذا تربيته لأصفيائه بإصلاح قلوبهم وأرواحهم ، وقد جاء وصفه بالربوبيه بعد وصفه بالألوهية ، وذلك إقرار باستحقاقه جل وعلا كل أنواع وأجناس الحمد .
أ. عائشة عبدالرحمن القرني
سلسلة ( أفلا يتدبرون القرآن )